Δ.Ε.Π. – Αρχική σελίδα

مبادئ وطرق المنهج العلمي

محاضرات مقرر S1 لكلية العلوم على شبكة الإنترنت

 


:طبيعة وهدف هذا المقرر

يتناول هذا المقرر الأسس التي يقوم عليها العلم، حيث يساعد على فهم ما يمكن أن يوصف بأنه علم وما لا يمكن أن يوصف بذلك. لذلك بعد الانتهاء من دراسة هذا المقرر سيصبح الطالب قادرا على التفرقة بين انواع المعارف المختلفة، وبالتالي التمييز بين تلك التي يمكن ان تندرج تحت قائمة العلم والتي لا يمكن ان توصف بأنها علم. ويجب الانتباه إلى أنه على الرغم من أن هذا المقرر يتناول مفاهيم علمية، إلا أنه ليس مقررا علميا في حد ذاته بل هو مقرر فلسفي، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. لماذا؟ لأن أسس المجال المعرفي لا يمكن تعريفها من داخل المجال ذاته وإلا أصبحنا كمن يدور في دائرة، وبناء عليه لن يكون التعريف صحيحا. ان مبادئ العلم ليست واقعة في نطاق العلم ذاته بل خارجة عنه، وبالتالي مبادئ العلم ليست جزءا من العلم ذاته، إنما هي جزء من الفلسفة.


:مجالات اهتمام العلم في العصر الحديث

إن كلمة (science) الإنجليزية مشتقة من كلمة (scientia) اللاتينية، والتي تعني المعرفة بوجه عام. ولقد تغير تعريف الـمعرفة (epistemology) عبر آلاف السنين وتطور، لاسيما في القرون القليلة الأخيرة، إلى شيء أكثر تحديدا من مجرد المعرفة بوجه عام، لقد أصبحت المعرفة تعني المعرفة المكتسبة باستخدام المنهج العلمي، وسوف نناقش ذلك بالتفصيل لاحقا، لكن ما نحن بصدده الآن، هو المنهج العلمي وتعامله مع العالم الطبيعي (المادي أو الفيزيائي). إن المجال الفلسفي الذي يتناول مبادئ كيفية اكتساب المعرفة (بما فيها المعرفة العلمية) يسمى بـ"نظرية المعرفة"، وهذا المقرر الدراسي يندرج تحتها.

إن مجال العالم المادي يختص به الجيولوجيون وعلماء الفيزياء والكيمياء والأحياء والفلك وغيرهم، بينما نجد المهن الأخرى كالمحامين ورجال الدين والفلاسفة ليست مهمتها الدراسة والبحث في هذا المجال. لكن ماذا عن اللغويين "المختصين بدراسة اللغة ونشأتها وتطورها"؟ إن اللغويين عندما يدرسون مبادئ اللغة كمادة نظرية مرتبطة بالإنسان والذي هو بدوره شيء مادي، فإنهم يعدون علماء طالما هم يطبقون المنهج العلمي (كما سيتم شرحه لاحقا). نفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لاختصاصي النفس والمختصين بالمعرفة حيث ان مجال دراستهم مرتبط بالمخ البشري (مكون مادي)؟ إذن ماذا عن المختصين بالرياضيات؟ على الرغم من ان مجال دراسة المختصين بالرياضيات الرئيسي، على سبيل المثال، هو الارقام والتي هي بدورها نتاج للمعرفة البشرية، إلا ان المختصين بالرياضيات لا يطبقون المنهج العلمي بشكل كامل (على الأقل الآن، من الممكن أن مختصي الرياضيات قديما كانوا يطبقونه)، إذن فالرياضيات ليست علما بهذا المفهوم ولكنها اداة من ادوات العلم التي لا يمكن الاستغناء عنها، ويمكن قول الشيء نفسه عن علم التنجيم، رغم أنه يبحث في العالم المادي، إلا ان المنجمين لا يطبقون منهجا علميا في دراساتهم، وبالتالي التنجيم ليس علما، ومع ذلك كل من الرياضيات والتنجيم متباعدان ومختلفان تمام الاختلاف، فالرياضيات كما قلنا أداة من ادوات العلم التي يمكن الاستغناء عنها في حين ان التنجيم لا يمكن القول عنه انه يطبق المنهج العلمي، في الواقع انه ينتهكه من عدة جوانب، على سبيل المثال عندما نفترض وجود علاقات بين الأجسام التي يتناولها بالدراسة (كمثال: العلاقة المزعومة بين الأجرام السماوية والأحداث المرتبطة بتواريخ الميلاد) وهي علاقة ليس لها اي اساس علمي.

لنكمل الآن تناول اهم مكون من مكونات العلم والذي لا يمكن الاستغناء عنه، ألا وهو المنهج العلمي.


المنهج العلمي

باتباع الخطوات الدائرية التالية تتحول المعرفة الانسانية المكتسبة الى جزء من المعرفة العلمية، وتلك الدائرة تتكون من المراحل التالية:

       الملاحظة.

       النظرية الأولية - التنبؤات.

       التجربة – جمع المعلومات.

       النظرية المعدلة – التنبؤات.

       النشر.

       النقد.

مع ملاحظة ان مراحل الدائرة السابقة قد لا تسير على نفس النمط المذكور فربما بعد مرحلة التجربة نعود الى مرحلة الملاحظة مرة اخرى (وهو ما يحدث كثيرا). ولنتحدث الآن عن كل مرحلة بالتفصيل.


:الملاحظة

الملاحظة او الملاحظات هي إحدى خصائص العالم المادي، ويقوم بها شخص واحد أو مجموعة من الناس، والملاحظة تحدث إما عرضا أي بدون قصد، أو عن قصد.

هذا مثال لملاحظة قام بها شخص واحد من دون قصد:

في فبراير 1896 كان العالم الفرنسي هنري بيكريل يقوم بفحص عينة من اليورانيوم، حيث سيتركها معرضة للشمس لمدة يوم كامل، فترك بعضاً اليورانيوم مع رقاقة فوتوجرافية في مختبره وفيما بعد اكتشف أن شكلاً معيناً من الإشعاعات قد ظهرت على الرقاقة الفوتوجرافية، فاستطاع ان يحصل على بصمة هذا المعدن على تلك الرقاقة (الفيلم). بيكريل افترض ان الطاقة الناتجة عن اشعة الشمس تجمعت داخل المعدن خلال النهار، وعندما تسربت تلك الطاقة لاحقا، تركت بصمتها على الفيلم الفوتوجرافي. وفي يوم اخر، وبينما كان يفحص عينة اخرى من اليورانيوم، ولأن الطقس كان غائما، وضع بيكريل العينة فوق الفيلم الفوتوجرافي في درج مكتبه، وبعد ايام عندما اخرج العينة من الدرج  مرة اخرى، فوجئ ان المعدن ترك بصمته ايضا على الفيلم، رغم عدم تعرض العينة للضوء اطلاقا. بيكريل توصل الى ان اليورانيوم بطبيعته قادر على ترك بصمته على الفيلم. لقد اكتشف بيكريل ظاهرة النشاط الإشعاعي عن طريق الصدفة.

وهذا مثال عن الملاحظة المتعمدة بهدف الاكتشاف:

في مطلع القرن التاسع عشر، لاحظ علماء الفلك وجود عدم انتظام في بيانات المدارات لكوكبي أورانوس ونبتون، فشكوا في احتمالية وجود كوكب آخر وراء نبتون يكون هو المسؤول عن هذا الاضطراب في البيانات. بدأ العالم الأميريكي بيرسيفال لويل البحث في هذا المجال، ولكنه لم يستطع ان يصل الى نتيجة إلى ان وافته المنية في عام 1916. فقط في 19 فبراير 1930 لاحظ عالم الفلك الأمريكي كلايد تومبو أن نجما خافت الضوء قد غيّر موقعه في الفضاء وذلك من خلال صورتين فوتوجرافيتين متعاقبتين تم تصويرهما في خلال اسبوعين. "النجم الصغير" كان كوكب بلوتو. (في ذلك الوقت وحتى عام 2006 كان بلوتو يعتبر الكوكب التاسع، لكن تم تخفيض رتبته الى جرم سماوي وليس كوكبا).

هذا الجهد من الملاحظة المتعمدة قد يؤدي الى موقف مضحك أثناء (تصحيح الخطأ) في الواقع، مثلما حدث في اكتشاف بلوتو. لماذا؟ لأن حجم ومدار بلوتو لا يشرح عدم الانتظام الملاحظ في مدارات اورانوس ونبتون. في نهاية الأمر تم اكتشاف ان هذا الاضطراب في مداري الكوكبين ناتج عن اخطاء في الملاحظة (في القرن التاسع عشر)، ولولا هذه الأخطاء لما كانت هنالك محاولات للكشف عن بلوتو. مثال آخر اكثر شهرة، التأكيد الأولي لنظرية النسبية العامة، والتي أكسبت أينشتاين، وبسرعة مذهلة، مكانة عالمية، وعلى حد علمنا الآن فإن نظرية النسبية العامة صحيحة (وأينشتاين يستحق تلك الشهرة بشكل مُبرر)، ومع ذلك فالتأكيد الأول لهذه النظرية قد صِيغ بشكل خاطئ، ففي عام 1919، التقط السير آرثر إدينجتون صورة للكسوف الشمسي الذي حدث في ذلك العام، وحسب مقدار انحناء الضوء لنجم قريب من الشمس، فوجد أن قيمة الانحناء متطابقة مع ما توقعته نظرية النسبية. ثم لاحقا اقترح العلماء ان حسابات إدينجتون اشتملت على اخطاء، وانه لولا هذه الأخطاء لكان اُعتقد ان قيمة الانحناء غير كافية لتأكيد النظرية أو (رفضها بالكلية)، ومع ذلك، الأخطاء ارتُكتب والنظرية "أُكدت" في عام 1919. بالطبع أتت بعد ذلك تأكيدات دقيقة تؤكد صحة النظرية (وما زالت تتوالى تلك التأكيدات).

وبذلك نرى أنه لكي تكون هناك ملاحظات مقصودة أو متعمدة من أجل البحث، فلابد أن يكون لدينا نظرية وتنبؤات، وهو ما سنتحدث عنه. الملاحظات التي حدثت بالصدفة وأدت إلى اكتشافات علمية دائما ما تكون أكثر إثارة للإعجاب، وهناك كلمة في اللغة الإنجليزية لهذا المفهوم وهي serendipity ولا توجد ترجمة لهذه الكلمة في اللغة العربية، ولكن أقرب مفهوم لها هو مصادفة سارة تؤدي إلى شيء مفيد دون قصد.


:النظرية

تؤدي الملاحظات إلى وجود مجموعة من المعطيات، ويهدف العلماء الى الخروج بنظرية تكون قادرة على شرح تلك المعطيات والتنبؤ بمعطيات جديدة.

فمثلا، لنفترض أننا نرى الأرقام التالية:

7, 14, 21, 28, 35, 42, ...

السؤال: ما الرقم الذي تتوقعه مكان النقاط؟

عادة لن تأخذ الإجابة منك سوى ثوانٍ قليلة لتلاحظ أن الأرقام بالأعلى هي مضاعفات الرقم 7، وبالتالي فإن الرقم مكان النقاط يجب أن يكون 49.

المثال أعلاه هو فكرة مبسطة عن كيفية إيجاد نظرية قائمة على ملاحظات مُسْبقة. الملاحظات أو "المعطيات" هي الأرقام 7 و14 و21 و28 و35 و42. والنظرية كانت عن مضاعفات الرقم 7 والتي عن طريقها أمكننا الإجابة على السؤال: ما هو الرقم التالي؟ فاستطعنا معرفة إجابة السؤال عن طريق عمل "تنبؤ". وهذه الخاصية تفْصل العلم عن بقية فروع المعرفة؛ فمن خلال العلم يمكننا التنبؤ بالمستقبل، على الأقل مع بعض اليقين (والذي لن يصل إلى نسبة 100% كما سنرى).

لنختبر الآن مثالا بصريا هندسيا؛ لنفترض ان المعطيات تتكون من الأرقام التالية

2, 9, 14, 17, 18, 17, 14, 9, 2

تلك الأرقام من الممكن أن تكون درجات الحرارة التي سجلت بواسطة ميزان الحرارة خلال فترات متقطعة من النهار، لنفترض كل ساعة مثلا. ليس مهما هنا ما تمثله تلك الأرقام، او كيفية تسجيلها؛ المهم هو اننا لدينا درجة عالية من اليقين عن صحة ودقة تلك الأرقام كي نعتبرها معطيات (لاحقا سوف نناقش أي درجة من اليقين تكون مطلوبة). نحن الآن نبحث عن نظرية تشرح لنا هذه المعطيات، نلاحظ اننا اذا قمنا بترتيب هذه الارقام بفواصل منتظمة وفقا لمقاديرهم فسوف نحصل على الرسم البياني التالي:

كل نقطة تمثل معطى (رقما) وقد وضعت على ارتفاع يتناسب مع مقدارها، فالنقطة الأولى (أفقى) تمثلها الرقم 2 (رأسي)، والثانية مع 9، والثالثة مع 14 وهكذا.

نلاحظ ان البيانات ليست عشوائية إنما تشكل نموذجا، وتحديدا نجدها تشكل مسارا لمنحنى، هذا المنحنى هو النظرية التي تشرح المعطيات، فاذا قمنا بتوصيل تلك النقاط فسنحصل على الشكل التالي:

بل ويمكننا أن نعطي صيغة رياضية أو نظرية لهذا المنحنى، وتلك الصيغة هي:  .  y = 18 – (x – 5)2 حيث قيمة   .. x = 3, x = 2, x = 1) x الخ ) بواسطة هذه النظرية y = 18 – (x – 5)²   نستطيع الآن الحصول على بعض التنبؤات

Yفيمكننا أن نتنبأ بأن المعطى العاشر لابد أن يكون -7 لـ

فإذا كانت المعطيات أعلاه هي فعلا درجات الحرارة، فإن نظريتنا تتنبأ بأنه في نهاية الساعة القادمة فإن درجات الحرارة سوف تنخفض إلى –7 (سبع درجات تحت الصفر). مثل هذه التنبؤات مفيدة في حياتنا الواقعية (فمثلا؛ لو أن درجة الحرارة ستنخفض إلى ما دون السبع درجات فمن الأفضل لي أن أرتدي معطفي الشتوي الثقيل).

y = 18 – (x – 5)2 وكذلك النظرية

تمنحنا الإحساس بالرضا لأننا الآن "فهمنا" بشكل أفضل ما تمثله تلك الأرقام، لأننا لدينا وصف موجز للأرقام من خلال هذه النظرية التي نقول عنها انها "وصف موجز" لأنها استطاعت أن تنتج تنبؤا، أكثر من مجرد أرقام، إنها تعطينا معلومات بقدر ما نريد عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل وهو ما لن نستطيع الحصول عليه أبدا بواسطة ميزان الحرارة.

بدلا من المثال المصطنع، ننتقل الآن إلى مثال حقيقي، مع نظرية حصلنا عليها من خلال ملاحظات واقعية أثمرت عن تنبؤات حقيقية؛ الكسوف الشمسي، فلدينا العديد من الأماكن التي رصدناها لمواقع الشمس والقمر (والكواكب الأخرى) في القبة السماوية المُتخيّلة، بحيث اننا نستطيع أن نخرج بنظرية تشرح لنا توقيت تحرك الأجرام السماوية، وبالتالي نستطيع التنبؤ بأماكن تلك الأجرام في المستقبل، فنعرف متى سيُغطي القمر جزئيا (أو حتى كليا) الشمسَ مسببا كسوفا شمسيا، فنحن نعرف على سبيل المثال أن أحد تلك الكسوفات سوف يُرى في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية في 2 أغسطس 2027 .

كسوف كلي للشمس

ولكن دعنا نأخذ في الحسبان أنه حتى القدماء استطاعوا التنبؤ بالكسوفات، على الرغم من أنهم كان لديهم نظرية خاطئة عن النظام الشمسي، وذلك أنهم اعتبروا أن الأرض ثابتة ولا تتحرك، وأنها تقع في وسط الكون، بينما بقية الأجرام السماوية هي التي تدور حول الأرض، تلك النظرية كانت تُدعى (مركزية الأرض)، وهي نظرية أكثر تعقيدا من النظرية الأخرى (مركزية الشمس، حيث تكون الشمس هي مركز الكون)، فالحسابات الفلكية بواسطة نظرية مركزية الأرض كانت أكثر صعوبة. الآن لو كان مجال اهتمامنا هو حركة الأجرام السماوية فقط مثلما نراهم من الأرض، فستكون نظرية مركزية الأرض أو (النموذج البطلمي)، كما يطلق عليه أحيانا، صحيحا، لكنه فقط أكثر تعقيدا. ولكن إذا كان اهتمامنا هو الفضاء والرحلات الفضائية، فعندها سندرك وبشكل مؤلم أن نظرية مركزية الأرض هي خطأ فادح وذلك عندما ينحرف مسار سفينتنا الفضائية بواسطة جاذبية الأرض المتحركة و"ليست الثابتة" فتضيع في الفضاء، ففي حالة الرحلات الفضائية هناك حسابات إضافية (على سبيل المثال: موقع المراقبة في فضاء ثلاثي الأبعاد) والذي هو شيء لن نستطيع التوصل إليه إطلاقا بواسطة نظرية مركزية الأرض، ومن ثم فإن كون نظرية ما جيدة أم لا يتوقف على كم المعطيات والمعلومات التي تشرح تلك النظرية، والهدف او الغرض من تلك النظرية.

لاحقا سوف ندرس النظريات وعلاقاتها بالمعطيات بشكل أكثر تفصيلا.


:التجربة – جمع المعلومات

غالبا ما نقوم بالتحقق من النظرية أو تعديلها من خلال التجربة في المعمل (أو خارجه وفقا للموضوع محل الدراسة)، ومن الممكن أن يحتفظ صاحب التجربة ببعض العوامل (أدوات القياس) ثابتة وينوع بالتغيير في البعض الآخر، ملاحظا الآثار التي تخلفها تلك التغييرات في العوامل على نتائج التجربة.

إليك مثال معروف جيدا عن تجربة ربما تعد من التجارب الأولى التي من خلالها اصبح مفهوما أنه لكي نفحص العالم المادي بشكل علمي فلابد أن يكون ذلك من خلال التجربة. غالبا ما يُقال ان جاليليو (1564-1642) ألقى كرتين، واحدة ثقيلة مصنوعة من الحديد، وأخرى خفيفة مصنوعة من الخشب، من أعلى برج بيزا المائل كي يبرهن أن كلا الكرتين سوف تصلان الأرض في وقت واحد، وهو عكس رأي أرسطو -السائد وقتها- القائل بأن الأجسام الأثقل تصل إلى الأرض أسرع، بالطبع تجربة جاليليو خيالية ولم تحدث، وحتى لو كان جاليليو أدى التجربة فعلا، فإن الكرة الثقيلة كانت ستصل إلى الأرض أسرع من الكرة الخفيفة بسبب مقاومة الهواء، (تخيل أن الكرة الخفيفة كانت بالون هواء)، لكي تنجح تجربة كتلك لا بد أن تحدث في غياب الهواء، وجاليليو يعلم ذلك جيدا، ولذلك هو لم يقم بتلك التجربة أبدا، لكنه ذكر فقط القانون الذي يحكم سقوط الأشياء، ومع ذلك تلك التجربة قد أُديت في العام 1971 على القمر بواسطة رائد الفضاء ديفيد سكوت أثناء بعثة أبولو 15، وذلك عندما أسقط مطرقة وريشة في نفس الوقت (شاهد الفيديو):

ملحوظة: لمشاهدة الترجمة العربية للفيديو اضغط على الزر cc بعد التشغيل مباشرة

فيديو من بعثة أبولو 15 على القمر
رائد الفضاء ديفيد سكوت يؤدي تجربة جاليليو

سكوت شاهد بنفسه، كما شاهد ملايين غيره عبر التلفاز، أن كلا من المطرقة والريشة قد سقطا على سطح القمر متزامنين وذلك بسبب انعدام الهواء على سطح القمر، بالطبع هذا النوع من "التحقق البصري" يعتبر غير صحيح من الناحية العلمية، سكوت أدى التجربة على سطح القمر لأسباب عاطفية وتكريما لجاليليو، ولكن لكي تكون هذه التجربة مقبولة من الناحية العلمية فإنها ينبغي أن تُؤدى في المعمل وفي حجرة مُفرغة من الهواء، باستخدام مؤقتات دقيقة لحساب الوقت... إلخ.

كما ذكرنا سابقا، فإنه يمكنا أن نبقى بعض العوامل ثابتة أثناء أداء التجربة على أن نجري تعديلات على البعض الآخر، على سبيل المثال، في التجربة السابقة، من الممكن المحافظة على الارتفاع الذي سنسقط من خلاله الجسمين ونغير في وزنيهما، وبعد التحقق من أنهما دائما يسقطان متزامنين في هذا (الخلاء)، وقتها من الممكن أن نجعل الأوزان هي العامل الثابت ونغير في عامل الارتفاع، كي نعرف دور الارتفاع بالضبط وأثره على عملية السقوط، كما يمكن أن نحافظ على عاملي الارتفاع والوزن دون تغيير أو نغير الأجسام. وهكذا.  

من المهم أن نلاحظ أنه في العصور القديمة وحتى عصر جاليليو، كان الناس في العادة لا يقومون بإجراء تجارب؛ إنما فقط يصيغون النظريات، والتي كانت بالتالي تبقى نظريات غير مُتحقق منها. من المستحيل ان نعرف ان نظرية ما هي صحيحة أو خاطئة بدون التأكد من صحتها بواسطة التجربة، التأكد من الصحة بواسطة التجريب هو عنصر الاختلاف الرئيسي بين التفكير القديم وبين العلم الذي بدأ في أوروبا في عصر النهضة، ولهذا السبب فإن المفكرين القدماء من اليونانيين والعرب وغيرهم ممن قاموا بدراسة الطبيعة يُطلق عليهم "فلاسفة الطبيعة"، حيث لم تكن تسمية "عالم" بالمعنى المتداول الآن معروفة في تلك الأزمان. أرسطو على سبيل المثال ذكر ان اسنان المرأة أقل من أسنان الرجل، لقد كان امرا بسيطا لو قام بفحص أسنان بعض النساء (بادئا بأسنان زوجته باثياس على سبيل المثال) لكي يقف على حقيقة الأمر، ومع ذلك لم يفعل، لأن الفحص التجريبي للمادة لم يكن جزءا من التفكير اليوناني القديم، إن الاختبار هو فكرة مبدعة قُدمت لأوروبا خلال عصر النهضة وقاد الى تطور العلم الحقيقي، والهالة الأسطورية حول التجربة التي لم يقم بها جاليليو إنما جاءت تحديدا لأنه من خلال التجربة أصبح لدينا القدرة على التمييز بين النظرية الصحيحة أو الخاطئة.

مثال آخر، نموذج مركزية الأرض الذي ذكرناه سابقا، من الممكن التحقق من صحته عن طريق التجربة، وذلك عن طريق بناء سفينة فضاء والسفر بها ثم نتحقق مباشرة هل الأرض ثابتة في مكانها لا تتحرك، بالطبع تجربة كهذه لا بد أن يتوافر لها العناصر التكنولوجية المناسبة والتي تجعل الرحلات الفضائية ممكنة، لم تكن تلك التقنية متوافر في عصر أرسطرخس الساموسي، الذي اقترح نظام مركزية الشمس، ولا حتى لاحقا في عصر نيكولاس كوبرنيكوس والذي اقترح نفس النظام مرة اخرى، ما يهم الناس في تلك الفترة هو ـكيف تكون النظرية "جذابة" بالنسبة لهم، وهو موضوع سوف نناقشه لاحقا، ومع ذلك حتى اليوم توجد نظريات لا يتوافر لها الأدوات التقنية التي من خلالها نستطيع التحقق من صحة أو خطأ النظرية، مثل نظرية الأوتار الفائقة في فيزياء الكم، والتي تشرح خصائص الجسيمات دون الذرية، فلكي نتحقق من صحة تلك النظرية فلابد أن يكون لدينا كمية من الطاقة لا نستطيع الحصول عليها في الوقت الحاضر، ولذلك تبقى نظرية الأوتار الفائقة نظرية غير قابلة للتحقق منها الى الآن.


:النظرية المعدلة – النشر – النقد

تأتي النظرية النهائية بعد التجارب وجمع المعلومات، سواء كانت تلك النظرية مُطوّرة للنظرية الأصلية أو كانت جديدة كليا، من المهم أن تشرح النظرية النهائية جميع الملاحظات، سواء الملاحظات الأولية (والتي ربما تكون جاءت بالصدفة) وتلك الملاحظات التي حصلنا عليها بواسطة التجربة.

وما يتبقى هو كتابة مقال للنشر (ورقة بحث) يصف كل المعطيات والملاحظات للنظرية، ويرسل المقال إلى مجلة علمية متخصصة، أو يعلن عنه في مؤتمر ذي صلة بموضوع الدراسة، وقد يُقبل أو يرفض المقال من قبل محرري المجلة العلمية، (أو من قبل منظمي المؤتمر)، وفي الواقع ليس المحررون او المنظمون للمؤتمر هم المخولون باتخاذ القرار، لكن بعض الزملاء من العلماء "المحكّمون"، هم الذين يقرؤون المقال، وكل واحد من المحكمين يصدر رأيه منفردا للمحررين بخصوص ما إذا كان المقال صالحا للنشر من عدمه، ويتوقع من العلماء المحكمين ان يكونوا موضوعيين، وفي المجلات العلمية المهمة لا يعرف المحكمون اسم كاتب المقال، حيث ان المحرر لا يكشف لهم عن اسمه، وبالتالي هم يقومون بالتحكيم بصرامة وفقا للمحتوى، ولا يتأثرون بمكانة كاتب المقال أو سلطته، وهو أيضا ما سنناقشه لاحقا، وكذلك لا يعرف المؤلف من هم المحكمون، تلك العملية يُطلق عليها "عمى مزدوج" لأن المؤلف لا يعرف المحكمين ولا المحكمون يعرفونه، وبعد حصول المحرر (الذي عادة ما يكون عالما أيضا) على آراء المحكمين، يأخذ القرار النهائي سواء بالنشر أم عدمه، وحتى عندما يكون القرار إيجابيا، فليس معنى ذلك أن الورقة ستنشر بدون تغيير، فيجب أن تُجرى بعض التغييرات وفقا لاقتراحات المحكمين، ويجري المؤلف التعديلات المُتفق عليها خلال وقت محدد، ثم يخضع المقال مرة أخرى للتحكيم، وإذا تلقى المقال موافقة نهائية، فإنه يظهر في بعض موضوعات المجلة، (أو في المؤتمر العلمي).

وعندما ينشر المقال فإنه يكون خاضعا للنقد من قبل المجتمع العلمي بأكمله، فقد أصبح متاحا للجميع، ولكي يكون نقد هؤلاء العلماء علميا، فينبغي ألا يكون النقد مستندا إلى حكم ذاتي للشخص، بل يجب أن يكون النقد مرتكزا على مجموعة معطيات أتت من ملاحظات جديدة، وإذا كانت تلك النظرية لديها تنبؤات، فلابد من اختبارها بواسطة التجربة ثم مشاهدة ما إذا كانت تلك الملاحظات متوافقة مع تنبؤات النظرية، وإذا حدث التوافق فإن النظرية وقتها تصبح مُؤكدة، أما لو تعارضت فإن النظرية وقتها تصبح غير صالحة، وبالتالي تبدأ دورة جديدة مع المعطيات الجديدة ونظرية (مُطوّرة) جديدة ثم النشر من جديد، وهكذا، وطبيعي ان يكون لدينا اسئلة حول ما إذا كانت التجارب صحيحة لكن المعطيات غير صحيحة، في تلك الحالة فإن النظرية لا تُرفض هكذا بمجرد أن تكون المعطيات الأولى غير مؤكدة أو خاطئة من دون أن تأخذ حقها من الاهتمام والتفكير، ومع ذلك فإنه كلما كانت المعطيات او البيانات الأولية خاطئة أثناء تبلور النظرية، كلما ازدادت قناعة العلماء بخطأ تلك النظرية.

والآن نأتي إلى السؤال المهم، من هو الشخص الذي يملك الحق النهائي في رفض أو قبول نظرية ما؟ الإجابة أنه ليس هناك شخص محدد بعينه، إنما هو المجتمع العلمي كله، ودائما ما يكون القبول أو الرفض ضمنيا، فلو استفاد علماء آخرون من المقال المنشور، أو أشاروا إليه كمرجع، فهذا معناه صحة البحث، أما لو حدث العكس فهذا معناه الرفض، بالطبع هذا الإجراء يحوي عنصرا شخصيا او غير موضوعي وهو رأي العلماء الآخرين، ولكن لأن العلماء الآخرين كثيرون فإن عدم الموضوعية أو الحكم المتحيز من قبل واحد من هؤلاء العلماء يصبح أمرا غير ذي أهمية، وذلك لأسباب إحصائية، ما يهم هو المعدل أو متوسط رأي المجتمع العلمي، لأنه يُفترض أن العلماء كلهم لن يكونوا ذاتيين في حكمهم، ومع الأخذ في الاعتبار أن الأسلوب العلمي والمبادئ العلمية المذكور في هذا المقرر، ومفادها أن العلماء بوجه عام يصدرون حكمهم وفقا لرصد البيانات، وليس وفقا لآراء منحازة أو لتخيلات.

تدريب: وفقا لما تم شرحه، فإن القارئ يفترض به أنه قادر على الإجابة على السؤال التالي بسهولة:

إلى أي مدى يُعتبر المحامي عالما؟ ولأي مدى يتبع المنهج العلمي؟

أيا من الاجراءات التي يقوم بها المحامون تعتبر ذات صلة بما تم شرحه حتى الآن؟

 


:نقد المنهج العلمي

من المؤكد ان القارئ لاحظ أن كلمة " يُفترض" اُستخدمت سابقا. يُعتبر الوصف السابق للمنهج العلمي مثاليا، ولكن عمليا هناك دائما أوجه قصور، وعلى أية حال كيف يمكن أن يكون الأمر مختلفا؟ فكون العلماء بشرا يجعلهم معرضين للخطأ مثلهم مثل بقية الناس.

:تحيّز العلماء الذين يقومون بالنشر

من المتوقع من العلماء الذين اوجدوا نظرية ما أن يحكموا عليها على بدون تحييز ووفقا للبيانات المتاحة، لكن عمليا غالبا ما يشعر العالم أن النظرية من بنات أفكاره، وكما يشعر الآباء تجاه أبنائهم بالالتزام وبرغبة في الكفاح من أجل تحقيق الصحة والرفاهية لهم، يشعر العالم ايضا بشيء مشابه لتلك الأحاسيس عندما يدافع عن نظريته، خصوصا عندما تبدأ المعطيات المتجمعة من الملاحظة والرصد تشير الى عدم صلاحية نظريته، قد نقول انه شيء ليس شديد الأهمية أن يدافع عالم عن نظريته "ابنه" ضد الأدلة المضادة، لأن المهم هو رؤية المجتمع العلمي كله والذي يكون أكثر موضوعية لأنه ليس بينهم وبين النظرية هذا الرابط العاطفي. لنرَ ما كتبه الكيميائي الفرنسي انطوان لوران لافوازييه (1743–1794) عن هذا الموضوع في القرن الـ18:

"التخيل هو ما يسحبنا باستمرار بعيدا عن الحقيقة، إنه يمثّل مع الأنانية وتأكيد الذات خليطا يعرف جيدا كيف يرشدنا ويدفعنا باتجاه استنتاجات لا تنبع من حقائق، نتيجة لذلك نحن نحاول بشكل ما أن نخدع أنفسنا، ليس غريبا على الإطلاق أن يظهر في علوم الطبيعة افتراضات بدلا من استنتاجات مُبرْهنة [...]"

"الطريقة الوحيدة لتجنب هذا الخطأ يكون بإزالة أو على الأقل تقليل – بقدر ما نستطيع – التفكير غير الموضعي والذي قد يضللنا. يجب أن نخضع تلك الأفكار دائما الى الاختبار التجريبي، فلا نحرص على شيء إلا الحقائق القائمة على المعطيات والتي بدورها لا يمكن أن تخدعنا، لنبحث عن الحقيقة من خلال التجارب المتوالية والملاحظة والرصد[...]"

انطوان لوران لافوازييه – عناصر الكيمياء (1789).

وسوف نتعلم المزيد عن ذلك في قسم القابلية للخطأ.

ومن الممكن حدوث العكس أيضا، بمعنى أن عالما ما قد "يحارب" نظرية طُوّرت من قبل علماء آخرين برغم أن المعطيات قد تبدو أنها تدعم تلك النظرية، ومثال على ذلك، نظرية "الانفجار الكبير" التي تشرح المراحل الاولية لتطور الكون والتي حاربها عالم الفلك فريد هويل حتى وفاته، رغم ان الأدلة التي تدعم تلك النظرية ظلت تتراكم، في الواقع ان هويل نفسه هو الذي أتى بهذا المصطلح "الانفجار الكبير"، لكن من الواضح أنه أراد أن يوجه "ضربة تحت الحزام" بشكل ازدرائي للنظرية، ومع ذلك فقد ساد هذا المصطلح الذي أتى به هويل على وجه الانتقاص والتقليل، واليوم تُعد نظرية الانفجار الكبير حجر الزاوية في علم الكون الحديث.


:تحيّز العلماء الذين يحكمون على النشر

عندما يخضع مقال للتحكيم من قبل مجموعة من العلماء ليقرروا إذا كان مستحقا للنشر من عدمه، فإنه يحدث أحيانا أن يلاقي هذا المقال رفضا ليس ناتجا عن اسباب موضوعية وإنما بسبب تعارضه مع "مشاهدة مُعترف بها" تكون موجودة سلفا في عقول المحكمين، فيكون لديهم رأي عن أي من النظريات هو الصحيح، وبالتالي بدلا من التحكيم بموضوعية والسماح للنظرية بالنشر كي يحكم عليها مجتمع علمي أكبر، فإنهم يرفضونها. تلك الحالة هي أقل حدوثا من سابقتها، والسبب هو أن عدد المحكمين يكون ثلاثة أو أكثر، وليس معنى ذلك أن تلك الوقائع نادرة الحدوث. لا، فكثيرا ما يشكو العلماء من ذلك، وفي بعض الأحيان تكون شكاواهم مستحقة، وفي البعض الآخر لا تكون كذلك.


:أخطاء جمع المعلومات

بالطبع هناك احتمالية ان تكون المعطيات الناتجة عن الملاحظة والرصد تحتوى على أخطاء، وهذا شيء لا يسبب مشاكل في العادة، لأن العلماء الآخرين سوف يقومون بالمزيد من الملاحظات التي تعمل على تصحيح المعطيات الأصلية، ففي علم المتحجرات على سبيل المثال قد يحدث أحيانا أن تُعطى تقديرات غير دقيقة لحفرية ما، ولكن مع تكرار القياسات فإن هذه الأخطاء تُصحح في نهاية الأمر. وهناك مثال آخر من علم الفلك، فحتى التسعينيات من القرن الماضي، كانت بعض النجوم تُعطى لها أعمارا أكبر من عمر الكون، لكن في النهاية تم تصحيح وسيلة قياس أعمار النجوم وتم إثبات أن أعمار تلك النجوم أقل من عمر الكون.

الأسوأ بكثير من الملاحظات الخاطئة هو تجيير المعطيات عن عمد، ومعنى التجيير هو جعل المعلومات أو البيانات تظهر وكأنها تؤيد نظرية مقترحة، وهذا ليس أمرا شائع الحدوث، لأنه عند حدوث أمر مماثل فإنه يُسفر عن طرد واستئصال هذا العالم المُزيّف من جسد المجتمع العلمي، فالعالم الذي يُزيّف معطيات يشبه رجل الشرطة الذي يتم رشوته من مجرم. تجيير المعلومات هو تصرف يعمل ضد واحد من أهم المفاهيم والدعائم الأساسية للعلم ألا وهو:

النظريات تُبنى على المعطيات

ولا تُبنى المعطيات على النظريات أبدا

 تماما كما يُفعل مع الأخطاء التي ترتكب بدون قصد، فإنه عاجلا أم آجلا سوف تتعرض الأخطاء المُرتكبة عند عمد للفحص والاختبار ايضا من قبل بعض العلماء الذين سوف يعيدون التجارب ويواجهون الخداع، ففي نهاية الأمر، ولأسباب إحصائية، فإن البيانات الخاطئة (بقصد أو دون قصد) سوف تُهمش وتُتجاهل وتُستبدل بأخرى صحيحة.


:الأخطاء التي تظهر مع النظرية

في النهاية، من الممكن أن يكون كل من المعطيات وموقف العلماء صحيحا لكن النظرية الناتجة ليست صحيحة، ومع ذلك فإنه عاجلا أم آجلا سوف يكتشف عالم ما الخطأ ويقوم بنشر التصحيح، مثال ذلك ما حدث في نظرية "الأثير" التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر؛ نظرية الأثير اُقترحت لكي "تحافظ" على فيزياء نيوتن الكلاسيكية والتي تعارضت لاحقا مع الملاحظات المتعلقة بالظواهر الكهرومغناطيسية، وتحديدا فيما يتعلق بسرعة الضوء في الفضاء، إلى ان اقترح أينشتاين نظرية النسبية الخاصة التي أبطلت نظرية الأثير وصححت فيزياء نيوتن الكلاسيكية.

على الرغم من مواطن الخلل السابقة في المنهج العلمي إلا أننا بوجه عام نستطيع ان نقول ان العلم استطاع أن يتغلب على مشاكله حتى الآن، مُعطيا نتائج صحيحة بشكل موضوعي، وهي نتائج ظهرت منافعها الإيجابية المؤثرة في نوعية حياة  الناس.


المعطيات – الحقائق

"خصائص فكرة "المعطى العلمي

هناك نوعان من المعطيات: معطيات القياس ومعطيات الوجود (من الممكن الحديث عن حقائق القياس وحقائق الوجود، ولأجل هذه الدراسة سوف نستعمل كلمة معطى كمرادف لكلمة "حقيقة" بالرغم من ان الكلمتين –في سياق عام- معناهما لا يتطابقان).

معطى القياس يظهر عندما يكون من الممكن قياس كمية ما وتحديد قيمة لها، على سبيل المثال يمكننا قياس أطوال وزوايا مختلفة على سطح الأرض (كما فعل إراتوستينس قديما) ثم حساب حجم الأرض الذي هو كمية يُعبّر عنها من خلال وحدة من وحدات القياس (مثل: الكيلومتر المربع).

معطى الوجود يظهر عندما نقوم بملاحظات نستنتج بواسطتها أن "X موجود" حيث إن X إما أن يكون جسما أو علاقة بين أجسام أو خاصية لجسم أو خاصية لعلاقة. على سبيل المثال افترضْ اننا نستعمل مجهرا وأدركنا من خلاله وجود أقمار قريبة من كوكب المشترى (تماما كما فعل جاليليو في بداية عصر النهضة)، فالأقمار أجسام، ومن خلال نفس الملاحظة نستطيع أن ندرك أن الأقمار تدور حول المشترى و"الدوران" هو علاقة بين الأجسام، ويمكننا أيضا أن نرى أن كل قمر له درجة لمعان معينة والتي هي خاصية من خصائص هذا الجسم، أخيرا ومع تكرار القياسات سنجد أن مسار القمر يستغرق أياما قليلة، فـ"فترة الدوران" هي خاصية لعلاقة، إن كل الخصائص ينتج عنها معطيات القياس، في حين أن الأجسام والعلاقات ينتج عنها معطيات الوجود.

من الخطأ التصور أن هناك شيئا من الممكن تمييزه على اساس انه اما ان يكون "حقيقة" (تعطينا معطى) أو "ليس حقيقة" (نظرية) باستخدام منطق هو إما أسود أو أبيض، فهناك تدرّج لابد أن يحدث قبل اعتبار المعطيات حقائق، وبعض الأمثلة كفيلة بشرح ذلك:

لنبدأ مع مثال عن "معطى قياس". افترض انه طلب منّا تحديد درجة حرارة دلو مملوء ماءً، فإننا ببساطة سنضع ميزان الحرارة في الماء، بشرط ألا يكون الماء شديد الحرارة ومن ثم يتخطى مؤشر الحد الأقصى في الميزان، وسنقرأ درجة الحرارة، لنفترض انها 25 مئوية؛ فهل هذا معطى؟ هل نعلم على وجه اليقين أن درجة حرارة الماء في الدلو هي 25؟

أولا؛ قد يكون ميزان الحرارة معيوبا، لكن من الممكن الانتباه الى ذلك عن طريق تجربة ميزان الحرارة قبل التجربة ومقارنته بموازين حرارة مشابهة أخرى، ومن ثم لا نجري التجربة إلا بعد التأكد من أن ميزان الحرارة يعمل بكفاءة مثل بقية الموازين.

ولكن تبقى لدينا مشكلة، فمن المستحيل أن تكون جميع موازين الحرارة متطابقة تطابقا تاما، فلا بد أن يكون هناك اختلافات في قراءاتها (لا ترى بالعين المجردة)، هذا يحدث بسبب أخطاء بسيطة واختلافات مجهرية في تصنيعها وهو ما يسبب اختلافات بسيطة في القراءة، إذن لماذا سنثق تحديدا في ميزان الحرارة الذي اخترناه من بين آخرين مشابهين له. أيضا درجة الحرارة ستكون مختلفة في أماكن مختلفة من المياه، لأن الدلو سُخّن وبُرّد بشكل غير متساوٍ (على سبيل المثال وفقا لاتجاه مصدر الضوء في الغرفة) ما يعمل على وجود تيارات مائية متناهية الصغر في المياه تؤدي ببطء إلى اختلاف درجة الحرارة المحيطة وتسفر عن درجات حرارة غير متجانسة في حال لو اصررنا على مستوى صارم من الدقة.

لكن تلك المشكلة يمكن التصدي لها بسهولة أيضا، لنستعمل 10 او 100 ميزان (ترمومتر) لقياس حرارة الماء في الدلو، ثم نجمع قراءات جميع الموازين، ولتكن مثلا: (..25.1°C, 24.8°C, 25.2°C إلخ)، وبتلك الطريقة سنحصل على عينة إحصائية، وليست قيمة مفردة بل سيكون لدينا متوسط إحصائي، على سبيل المثال فإن معدل درجات الحرارة ربما يكون 25.073°C، فبواسطة طرق احصائية بسيطة نستطيع ان نقول انه وفقا للعينة فإن درجة حرارة الماء في الدلو تتراوح ما بين 24.7 و25.3 درجة مئوية وذلك بدرجة يقين أو درجة تأكد تبلغ 95%، فإذا أردنا أن نزيد درجة اليقين فإن مدى الدرجات المئوية سيزيد في المقابل (على سبيل المثال: إذا أردنا أن نكون متأكدين بنسبة 99% فإن معدل درجات الحرارة سيكون بين 24.6 و25.4 درجة مئوية، وهي القيم التي سنصل إليها بواسطة نفس الطرق الاحصائية السابقة).

وهكذا فإن نتائج المعطى التي نحصل عليها بواسطة القياس يجب ألا تكون أبدا رقما بسيطا، إنما هي وصف إحصائي مصحوب بدرجة من التأكد أو اليقين، فدرجة اليقين لن تصل أبدا إلى درجة الكمال وهي 100%.

ننتقل الآن إلى "حقائق الوجود" والتي ستكون محل اهتمامنا بدرجة اكثر قليلا، والتالي هو مثال بسيط: هل وجود معبد البارثينون في أثينا .. حقيقة؟


معبد البارثينون

إذا كنا نعيش في مدينة أثينا فإنه من السهل جدا أن نتحقق من ذلك بأعيننا، فجولة صغيرة على الأقدام ستكون كافية (البارثينون على قمة صخرة في الأكروبول، ومن الممكن رؤيتها من عدة مواقع في أثينا، فالمدينة بنيت بطريقة تعمل على تسهيل تلك الرؤية)، وإن لم نكن نعيش في أثينا فإن القيام برحلة إليها سيكون كافيا للتأكد من وجود هذا المعْلم القديم بأعيننا ومن ثم نقبل وجوده في أثينا كحقيقة مُسلّم بها) إضافة إلى أن الكتب (وصفحات الانترنت والتلفاز والصور) التي يظهر المعبد من خلالها، ليست جزءا من مؤامرة كبرى هدفها أن تقنعنا بأن شيئا كهذا موجود في حين أنه في الحقيقة ليس موجودا. إن السؤال عن  الحد المقبول من الصعاب والتضحيات والنفقات التي يمكننا تحمله، تعتمد إجابته على موقعنا بالقرب او البعد من أثينا ومدى رغبتنا في التأكد من تلك الحقيقة (وجود البارثينون)، على سبيل المثال: إذا كنا نعيش في أستراليا فستكون المصاعب اكثر (والنفقات وغيره)، لكن على أية حال فإننا في وضع يسمح لنا بأن نتأكد من وجود البارثينون بأعيننا.

ومع ذلك فإنه تجدر الإشارة إلى انه عندما نرى شيئا أو جسما بأعيننا، ونتسائل هل هو موجود أم لا، فإن درجة اليقين عندما نجيب بـ"نعم" لا يمكن أن تكون 100% تماما. بعض الناس تشعر بوجود قوى خارقة للطبيعة حولهم، بالطبع معبد البارثينون ليس خارقا للطبيعة، لكنه طبيعي تماما، لكن ما يزال يوجد بعض الناس الذين يرون أشياء طبيعية أمامهم (انظر المقرر N4 وتحديدا "متلازمة شارل بونيه")، هؤلاء الناس طبيعيون تماما، من الممكن أن تكون مثلهم، بالطبع نحن ندرك أننا -على الأغلب- لسنا منهم، ولكن الواحد لا يمكن أن يكون متيقنا تماما من ذلك، لذلك درجة اليقين لا يمكن أن تبلغ 100%، ولا حتى بالنسبة للأشياء التي تقع امام أعيننا مباشرة.

الآن لنجعل السؤال عن وجود جسم ما أصعب قليلا: هل كوكب نبتون موجود؟


نبتون

لا نستطيع الإجابة على هذا السؤال من خلال جولة في المدينة أو رحلة بواسطة سيارة أو طائرة، بل لا بد أن نجهز أنفسنا بالتالي: 1 - التقانة المناسبة (مجهر أو منظار قوي) و2 – المعرفة الفنية، وذلك كي نستطيع ان نحدد اي موقع في الفضاء وأي وقت في الليل يكون النظر الى نبتون مثاليا. لكن هذا السؤال أيضا لا يعد فوق مستوى إمكانيات الشخص العادي الذي يريد أن يرى نبتون بعينيه، فلا المجهر ولا المنظار القوي يكلفان كثيرا، كذلك ليس صعبا الحصول على معلومات عن المكان والزمان الصحيحين للقيام بتلك المشاهدة، (ممكن الحصول على هذه المعلومات من الانترنت على سبيل المثال)، ومن ثم فنفس الملاحظات التي ابديناها عن البارثينون يمكن تطبيقها هنا.

ومع ذلك، ففي اللحظة التي تصبح فيها التقانة (التكنولوجيا) مطلوبة للتحقق من وجود شيء ما، يصبح واضحا لنا ان إجابة السؤال عن التحقق من هذا الوجود قد تتجاوز قدرات الشخص العادي للتحقق من ذلك بنفسه، حتى لو توافرت لديه الرغبة في تجاوز العقبات والنفقات. على سبيل المثال: هل القمر ساو التابع لنبتون موجود؟


صورة فنية للقمر ساو (ليست صورة حقيقية)

عدد قليل من الناس في العالم هم وحدهم القادرون على الإجابة على هذا السؤال بواسطة استخدام أعينهم، وذلك لأن ساو قمر بالغ الصغر لكوكب هو أساسا بالغ البعد عنا، لقد ادى اقتراب المسبار الفضائي الرحالة – 2 (Voyager-2) إلى جوار نبتون عام 1989 إلى اكتشاف ستة أقمار لكوكب نبتون (ولم يكن ساو من بينهم) إضافة الى القمرين المعروفين وقتها، في حين تم اكتشاف ساو عام 2002 بواسطة فريق من علماء الفلك الأميركيين، "البشر العاديون" ليس لديهم أية امكانية لرؤية القمر ساو الصغير.

علاوة على ذلك، هناك "حقائق" (في الواقع عدد كبير جدا منهم) لا نستطيع أن نعتمد على ملاحظاتنا الشخصية لنحدد إذا ما كنا نتقبلها كحقائق أم لا، لا بد من الاعتماد على ملاحظات آخرين، هؤلاء الذين لديهم وسائل التقانة المناسبة للقيام بهذه المهام، ولهذا السبب درجة تأكدنا من وجود ساو لابد ان تكون اقل يقينية من وجود معبد البارثينون أو كوكب نبتون. لكن أي نوع من الملاحظات يمكن أن نتقبله؟ هل كل الملاحظات أو المشاهدات "تُحتسب" علمية؟ ومن هم هؤلاء الذين يمكننا الثقة بهم وقبول ملاحظاتهم ومعطياتهم؟ كيف نعرف أنهم لا يحاولون خداعنا أو أنهم انفسهم مخدوعون ذاتيا؟


معايير قبول الملاحظات: أي الملاحظات التي ينتج عنها مُعطيات علمية

بما أن المعطيات التي نحصل عليها عن طريق الملاحظات لها دور رئيس في المنهج العلمي، فمن الطبيعي أن نعرف أي نوع من الملاحظات تسفر عن معطيات علمية، وكدافع الى التفكير؛ تأمل الامثلة التالية:

       لنفترض اني وحدي في غابة مظلمة، بعيدا عن الناس، فجأة سمعت صوتا يهمس في أذني "احترس!"، انظر حولي وأتأكد أنه لا أحد بالقرب مني؛ هل هذه تعتبر ملاحظة علمية؟ هل هي حقيقة أن شخصا ما همس في أذني؟

       نقش قديم لأناس اختفوا من 1000 عام يقول ان كل افراد القبيلة (والبالغ عددهم أكثر من 1000 شخص) شهدوا هبوط عنكبوت عملاق من السماء واستقر بقرب التل؛ هل هذه تعتبر ملاحظة؟

       أعضاء مجتمع ديني صغير يعيشون معزولين في الصحراء ادعوا أن قائدهم أتى بالمعجزات بشكل متكرر، عالج المرضى، أحيى الموتى؛ هل هذه تعتبر ملاحظة؟

       رهبان في دير زعموا نفس الادعاءات، فيما يخص العلاج (ولكن لا يشمل ذلك إحياء الموتى) وعزوا هذا الفعل الإعجازي إلى رمز ديني (لوحة)؛ هل تعتبر تلك معطيات مأخوذة من ملاحظة؟

       منتمون إلى دين أتباعه أكثر من مليار مؤمن ادعوا أنه وفقا لكتابهم المقدس، فإن مؤسس دينهم مشى على سطح الماء. منتمون إلى دين آخر، أتباعه يزيدون عن المليار أيضا، ادعوا أن كتابهم المقدس جاء مباشرة من عند إلههم، فقد أُعطي هذا الكتاب إلى مؤسس هذا الدين عندما كان منفردا في كهف؛ هل يمكن النظر الى هذه الادعاءات على انها "حقائق" جاءت نتيجة للملاحظة؟

       مقيمون في مدينة معاصرة تعداد سكانها أكثر من 20000 ألف شخص زعموا أنهم رأوا نارا تعبر السماء في يوم محدد ووقت محدد، هل هذه تعتبر ملاحظة؟

الأقسام التالية ستساعدنا في الإجابة على الأسئلة السابقة.

نحن نفترض درجة من اليقين لكل ملاحظة، وفقا لمدى ما نعتقده فيها وفي قدرتها على أن تعكس الواقع من عدمه، فالملاحظة ليست فقط "صوابا" و"خطأ"، ولكنها درجة من اليقين قائمة على أربعة معايير، هي: (التحقق والموضوعية والاستقلالية وتعددية الملاحظة). درجة اليقين هي احتمالية أن تكون الملاحظة صحيحة، على سبيل المثال أن توجد "حقيقة" نستطيع ان نستخدمها لنحصل على "معطيات"، من الممكن أن تكون درجة اليقين تلك قريبة من 0 إذا كنا متأكدين تقريبا ان الملاحظة خاطئة، أو من الممكن أن تكون 1 إذا كنا متأكدين تقريبا أن الملاحظة صحيحة، أو من الممكن أن تكون درجة اليقين ما بين 0 و1، ولكن الدرجة لا تشمل القيمتين السابقتين. كلما اقتربت درجة التأكد من 1 شعرنا بالارتياح في وصفنا للملاحظة بـ"الحقيقة"، مما يسفر عن إعطائنا معطيات علمية، ومن ثم فنحن ببساطة لا نقبل أو نرفض المعطيات من الملاحظة، ولكننا نرى أن بعض الملاحظات تستحق أن نأخذ منها معطيات علمية وبعض الملاحظات لا تستحق، وإليك المعايير التي يجب أن تُستخدم كي نحدد درجة اليقين في كل ملاحظة.


التحقق:

ربما أهم ميزة يجب توافرها في الملاحظة كي تكون علمية هي قابليتها لأن يُتحقق منها، لابد أن يكون في إمكان الملاحظين الآخرين تكرار عملية الملاحظة، وذلك بعد أن يُعلَن أن الملاحظة أُجريت (أو ربما تحدث ملاحظة جماعية، كأن يكون حدثا عالميا متوقعا يمكن ملاحظته كظاهرة فلكية مثلا).

هذا الشرط يُخْرِج فورا ما تحدثنا عنه آنفا من حادثة الهمس في الغابة، لأنه لا يمكن لأحد التحقق من تلك التجربة التي حدثت لهذا الرجل، لاحظ أنه حتى الشخص او الأشخاص الذين تعرضوا لمثل هذه التجربة لا يمكنهم التحقق منها، لأنهم لا يستطيعون إعادتها، ومن هنا فلا يهم كم هو متيقن من درجة سماعه لهذا الهمس أو الصوت، فالتجربة أو الحدث غير قابل للتحقق منه، ومن ثم فهو ليس علميا، درجة تأكد أو يقين الأشخاص أنفسهم ليست ذات أهمية، لأنه من خلال دراسة علم الأعصاب مثلا سنجد أن هناك منطقة في الدماغ تحدد لنا الأصوات التي "نسمعها" عندما نستغرق في افكار صريحة أو عندما نقرأ شيئا ما، على سبيل المثال عندما تعمل تلك المنطقة في الدماغ بشكل طبيعي، فإننا نعلم أن تلك الأصوات صادرة منا، ولكن عندما، ولأسباب متعددة، "تُغلق" تلك المنطقة (على سبيل المثال تتوقف عن العمل ولا تتعامل مع الإشارات)، كما يحدث في بعض الحالات النادرة، فإننا حينئذ نسمع أفكارنا وكأنها أصوات أتت من العالم الخارجي ولم تأتِ من داخلنا، ونفس الوضع يحدث مع المعلومات البصرية، فربما يرى الشخص جسما أو شكلا أو "كيانا" يبدو واقعيا تماما له، وهو ليس إلا نتاج عقله، ويحدث له ذلك في ظروف خاصة (مثل: القلق، الضغط، الإرهاق، الجوع... إلخ)، وهذا يحدث عندما يتعطل منتصف الدماغ عن العمل، وهو الجزء المختص بالتمييز بين ما نراه في العالم الخارجي وبين ما ينبع من مخيلتنا (هذه المواضيع ستُناقش بالتفصيل أكثر في N4). وبغض النظر عن شرح تلك الحالة، فإن الملاحظة لا تُعتبر علمية، كونها غير قابلة للتحقق منها.

ربما يُعطي هذا الشرط - القابلية للتحقق - انطباعا بأن عددا كبيرا من الأحداث التي حدثت في الماضي، ولا يمكن حدوثها في المستقبل، اصبحت "غير علمية"، فعلى سبيل المثال، هل معرفتنا عن الأحافير تُعد غير علمية، لأن كل حفرية حدثت مرة واحدة في الماضي، ولن تحدث ثانية؟ الإجابة هي أن الباحث حر في تقديره لعمر الحفرية ( طالما يعرف كيف يفعل ذلك) فله أن يقدر عمرها عدّة مرات كما يشاء. (في مقرر b1 سنعرف كيف تُقدّر أعمار الحفريات). ومن ثمّ، فالمُعطى في هذه الحالة ليس "الحفرية"، لكنه الشكل واللون والوزن ... إلخ، وعمر مُقدّر لحجر. وهذه كلها معطيات علمية بلا ريب بما انها قابلة للتحقق منها. ما لا يمكن التحقق منه هو التطور من النوع (أ) إلى النوع (ب)، ولذلك فالتطور البيولوجي بين الأنواع ليس حقيقة (باستثناء ما يتعلق بالبكتريا والفيروسات والتي من الممكن ملاحظتها في المختبر)، لكنه النظرية التي تشرح لنا المعطيات (الحفريات، اختلاف الـdna ... إلخ)، ما يقصده بعض العلماء عندما يقولون إن "التطور حقيقة"، أنه بالنظر إلى الأدلة الدامغة المتاحة لكل شخص يدرس الأحياء، فإن درجة اليقين بصحة نظرية التطور مرتفعة جدا لدرجة أن مفهوم التطور يكاد يصل إلى درجة "الحقائق" بدلا من اقترابه إلى درجة "النظريات". هذه الفكرة ستصبح أكثر وضوحا عندما ندرس النظريات بتفصيل أكثر.

ما الذي يمكننا قوله عن الأحداث التاريخية مثل الهولوكوست؟ بالأخذ في الاعتبار كل المعايير التي ذكرت في هذا القسم (وليس فقط معيار القابلية للتحقق)، فإننا نستطيع الوصول إلى درجة من اليقين فيما يتعلق بأحداث الهولوكوست، وبالنسبة لليقين فإن معايير أخرى تكون مفيدة مثل التعددية وإلى أي مدى نستطيع أن نثق بهم، إلخ. (انظر بالأسفل). مذابح الهولوكوست مُوثّقة من قبل مصادر عديدة وموضوعية جدا ما يجعلنا نتيقن أنها حدثت (ربما بنفس اليقين والتأكد من حدوث الحرب العالمية الثانية)، لكن بعض الأحداث التاريخية الأخرى، مثل (مذابح الأرمن – 1915) هي محل نزاع من قبل البعض (الأتراك مثلا) ومؤيدة من قبل الأكثرين. نستطيع الحصول على درجة من اليقين عن طريق فحص المصادر التاريخية والوثائق الموجودة، ومن ثم فإنّ التاريخ يُعد مجالا علميا فيما يتعلق بفحص المعطيات (انظر القسم التالي) ويعطي لنا نظريات تفسر تلك المعطيات وتحاول أن تتنبأ بالمستقبل.


الموضوعية:

هناك شرط آخر في غاية الأهمية، وهو أن يكون الملاحظ موضوعيا، ولنعرف سبب أهمية هذا الشرط فيكفي ان نتأمل موقفا مألوفا جدا، لنفترض أننا نسأل مؤمنا بالدين "س" السؤال التالي: هل الدين "ص" صحيح أم خطأ، بصرف النظر عمّا إذا كان الدين "س" صحيحا أم خطأ، فإن المؤمن بالدين "س" سوف يرفض الدين "ص" موضحا أنه دين زائف، (وإلا كان لزاما على المؤمن بالدين "س" أن يعتنق الدين "ص")؛ هذا المثال يوضح بشكل عميق أن نقص الموضوعية مرتبط بقوة مع المسألة التي نتناولها؛ وهي إعطاء الآراء الأولوية بدلا من الملاحظات والمعطيات، فكي يكون المرء موضوعيا عليه أن ينظر إلى الدليل بإنصاف، واستخلاص النتائج فقط من البراهين، وليس من خلال ما يريده هو أن يكون حقيقيا.

شرط الموضوعية في غاية الأهمية، مثل شرط القابلية للتحقق، لأن انعدام الموضوعية يلغي الهدف من وجود الملاحظة وتسجيل ما يحدث في العالم على وجه الحقيقة وتجنب الآراء الشخصية للملاحظ وانحيازه. عمليا، من الممكن مصادفة عالم غير موضوعي، لاسيما عندما يكون الموضوع محل النزاع هو نتاج احد العلماء المتنازعين، ومع ذلك فكما ذُكِر آنفا، فإن معاناة المجتمع العلمي بأكمله مع هذا النوع من المشاكل تبدو نادرة، ومن ثم يتضح لنا انه عندما نتعامل مع نظريات محكوم عليها بالصحة من قبل الغالبية الساحقة من العلماء، مثل نظرية النسبية ونظرية التطور بواسطة الانتقاء الطبيعي ونظرية حركة الصفائح التكتونية، إلخ. فإننا نكون واثقين تماما أن تقييم المجتمع العلمي موضوعي.

أحيانا، يُزعم خطأً -تحديدا من قبل بعض الناس الذين لم يشاركوا ابدا في بحث علمي، والذين هم غير مدركين للمنهج العلمي- أن العلماء كلهم غير موضوعيين، وأن لهم "أجندة" سرية، أو أنهم يرون الأشياء من خلال "رؤيتهم العلمية الخاصة" وأن منهجهم ورؤيتهم تلك هي واحدة من بين العديد من الآراء والمناهج والرؤى الأخرى للحقيقة، لكن في الواقع ان هناك منهجا ونظرة ورأيا علميا واحدا فقط من بين تلك الآراء، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الرأي العلمي ربما هو الأفضل من حيث الإمكانية والأكثر نجاحا من الناحية "التكنولوجية" -التي هي ثمرة من ثمرات العلم– والتي ساهمت في تحسين حياة البشر. إنها ليست مصادفة بعد كل ذلك أنه عندما يحدث تأكيد على صحة رأي ما، والذي عادة يُزعم (لو كان ممكنا) انه "مثبت علميا..."، لا أحد أبدا يدعي انه رأي "مثبت تنجيميا" على سبيل المثال.


الاستقلالية:

تكون الملاحظات في غاية الأهمية عندما تُؤدى بشكل موضوعي.

مثال: ثلاثة أفراد زعموا أثناء قيامهم بنزهة معا في الريف أنهم رأوا طبقا طائرا يعبر السماء. في حالة أخرى، ثلاثة أفراد، لا يعرف أحدهم الآخر، ويعيشون في أماكن مختلفة في الريف، وأماكن إقامتهم متباعدة، ادعوا رؤية نفس الظاهرة، طبق طائر يعبر السماء، سنجد أن الملاحظة في الحالة الثانية تكتسب درجة أعلى من الأهمية بشرط أن نتأكد أن الأفراد الثلاثة لا يعرف احد منهم الآخر.

ومع ذلك، لا نستطيع أن نصف الملاحظتين السابقتين بالـ"علمية" لأن الحدث المُبلّغ عنه لا يمكن التحقق منه، إلا إذا كانت هناك صور أو أفلام فيديو مُصوَّرة والتي بدورها يجب التأكد من مصداقيتها وصحتها.

إليك مثالا مأخوذا من الواقع العلمي، وهو يظهر لك أهمية استقلالية الملاحظات، هناك طريقتان كي نقدر أحدث سلف مشترك لكل البشر الأحياء؛ الطريقة الأولى بواسطة فحص عمر حفريات الأفراد المتشابهين في خصائص الهيكل العظمي لجنسنا العاقل، سنجد ان العمر المذكور قد قُدّر بواسطة استخدام طرق ميكانيكا (فيزياء) الكم (قياس النسبة المئوية المتبقية من النظائر المشعة لبعض العناصر) وهي موجودة في الفترة ما بين 150.000 إلى 200.000 سنة مضت تقريبا. مؤخرا (في العقود الماضية) تم تطوير طريقة أخرى وهي "الساعة الجزيئية" وتعني فحص الـ DNA للعينة التي تمثل البشر الذين يعيشون اليوم، ومن ثمَّ "العودة الى الوراء زمنيا" باستخدام مفهوم معدل الطفرات الذي يظهر في جزيء الـ DNA وحساب الزمن الذي ستصبح فيه كل جزيئيات الـ DNA في العينة متطابقة من الناحية العملية، ثم نُقَرّب إلى الـ DNA أحدث سلف مشترك لجميع افراد العينة، هذه الطريقة أيضا تعطينا عمرا متشابها جدا مع العمر الذي استطعنا التوصل له عن طريق فحص الحفريات، وهو ما بين 150.000 إلى 200.000 سنة مضت تقريبا. نظرا لأن كل طريقة مستقلة تماما عن الأخرى، ولأنهما توصلتا في نهاية المطاف إلى نفس النتيجة فقد أصبح لدينا يقين أكبر مما لو كانت النتيجة التي بين أيدينا توصلنا لها من خلال طريقة واحدة فقط.


التعددية:

يلعب عدد الملاحظات التي تُؤدى دورا في تحديد مدى ثقتنا في تلك الملاحظات؛ ففي المثال المطروح في القسم السابق (الطبق الطائر)، تكون أهمية الملاحظة التي جاءت عن طريق رؤية ثلاثة أشخاص للظاهرة، أقل من تلك التي شاهدها تقريبا اناس راشدون في بلدة صغيرة تعدادها 20.000 نسمة، ومع ذلك فإن عامل العدد وحده ليس كافيا وحده في وصف شيء ما على أنه حقيقة، فهناك أمثلة مشهورة لحالات اعقدت فيها البشرية أن شيئا ما حقيقة، فقد كان ذلك واضحا لهم عن طريق الملاحظة المباشرة، ومع ذلك اتضح ان تلك "الحقيقة" خطأ. على سبيل المثال، اعتقد الناس في العصور القديمة ان الأرض مسطحة، لأن ذلك هو ما أخبرته به أعينهم، كذلك هم رأوا أجراما سماوية تبحر خلال القبة السماوية، واعتقدوا ان الارض ثابتة لا تتحرك وانها مركز الكون، وأن تلك الأجرام تدور حول الارض، ومع ذلك فإن كل ما سبق لم يتبين خطأوه فحسب؛ بل إن تلك "القبة السماوية" ليست موجودة من الأساس، إنها خداع بصري. مما سبق يتضح لنا ان عدد الملاحظات مهم لكننا لا نستطيع أن نعتمد عليه وحده (حتى لو كان هذا العدد من الملاحظات كبيرا) لكي نقرر إذا ما كان لدينا حقيقة علمية من عدمه.  

في المثال السابق (الذي قدّرنا فيه عمر أحدث سلف مشترك للإنسان بواسطة الساعة الجزيئية للـDNA) نجد انه كلما ازداد عدد الناس الذين مثّلوا العينة (الناس الذين فُحِص الـDNA الخاص بهم) كانت نتائج الدراسة آمنة وأكثر دقة ويقينا، فيما يتعلق بالعمر المُقدر.


 

تدريب: بناءً على ما سبق؛ حاول أن تجيب على الأمثلة المدرجة في هذا القسم. يجب ألا تكتفي في إجابتك بنعم (انها حقيقة) أو لا (ليست حقيقة)، بل يُفترض ان يكون لديك درجة تقريبية من اليقين تمكنك من قبول هذا الادعاء على انه حقيقي.

 

"المعطيات" المُفترضة التي هي في الواقع نظريات:

في القسم التالي سوف نتناول بالتفصيل مفهوم "النظرية"، لكن يجب أن نلاحظ انه يوجد في بعض المجالات العلمية بعض "الأجسام" او "العلاقات بين أجسام" لم يرها أحد مطلقا بعينيه، إما لأنها تتطلب تقانة (تكنولوجيا) متقدمة لم نستطع التوصل إليها بعد، أو لأننا مقيدون بالطريقة التي تعمل بواسطتها الرؤية البشرية (ما يعني أننا ليس لدينا أي امل أبدا في رؤية هذه الاشياء - بغض النظر عن التكنولوجيا)، ومع ذلك نحن نعترف أن هذه الأجسام "موجودة"، ومن خلال ذلك نستطيع أن نشرح (بدرجة من اليقين – تكون عالية أحيانا) ملاحظات أخرى لأجسام أخرى، ويجب أن نفهم أن هذه "الأشياء" التي لم نستطع رؤيتها أو ملاحظتها مباشرة ننظر إليها على أنها "نظريات"، لكنها نظريات لا يستطيع عالم أن يرفضها، فلا يوجد ما يستطيع أن يحل محلها؛ لنرَ بعض الأمثلة:

الجسيمات دون الذرية:


رسم توضيحي لذرة (يسار) وبروتون (يمين)
يمكننا إعطاء وصف أولي فقط، وهذا الوصف بالضرورة بعيد عن الواقع

فلا أحد يستطيع الرؤية المباشرة لـ الإلكترون او الكوارك او الجلوون او نيوترينو أو أي من الجسيمات دون الذرية التي تشكل المادة، والسبب هو اننا عندما نرى جسما فإن تلك الرؤية تحدث بسبب ان واحدا أو أكثر من الفوتونات تنْبعث من الجسم وتُكتشف بواسطة شبكية العين (حيث تقوم الفوتونات بتشغيل بعض الخلايا الحساسة للضوء: "الخلايا المخروطية" و"الخلايا النبوتية")، ولكن عندما نريد رؤية جسم بالغ الصغر مثل الجسيم دون الذري، فإن الفوتون يكون أداة رديئة جدا لا تمكننا من رؤية الجزيء، فعندما يرسل الإلكترون فوتونا، فإن خصائص الإلكترون (مثل؛ زخم الحركة الخاص به، موقعه في الفراغ... إلخ.) تتغير، والنتيجة أن الفوتون الذي تلتقطه العين لا يعطي معلومات صحيحة عن الحالة الراهنة للإلكترون. بعبارة أخرى، الملاحظة البصرية (التي تستخدم الفوتونات) تؤثر على الجسم المرصود (الجسيم دون الذري). لكي نكون قادرين على رؤية جسم ما، فلابد لهذا الجسم ان يمتلك كتلة كبيرة لكي لا يتأثر جوهريا بالفوتونات. وبما أننا نتمكن من الرؤية فقط بواسطة الفوتونات، فليس لدينا أي أمل أبدا في رؤية جسيم دون ذري، إنما نستدل على وجوده بشكل غير مباشر فقط، أولا: لأنه من خلال هذا الجسيم نستطيع شرح عدد أكبر من الحقائق والملاحظات (من بينها الأداء الصحيح لأجهزة التلفاز والكمبيوتر والهواتف الخلوية والـ GPS "أنظمة تحديد المواقع" وعدد كبير من المنتجات التكنولوجية الأخرى)، وثانيا: لأنها طريقة تُتّبع كحل لمعادلات في ميكانيكا (فيزياء) الكم. الشيء الآخر، وهو ما سنناقشه بالأسفل، "المعطيات التي تُعتبر نظريات"، فهي أيضا لديها نفس تلك الخصائص، فقد تم التوصل إليها على اعتبار انها حلول لمعادلات.

الثقوب السوداء:


محاكاة بواسطة الكمبيوتر لظهور الثقب الأسود

لا يرى أحد ثقبا أسود في السماء مباشرة، بسبب - كونه أسودَ – فالثقب يمكن رؤيته فقط إذا كان معاكسا لخلفية مضيئة من السديم، بدلا من الخلفية المعتادة (والسوداء أيضا) للفضاء بين النجوم، إضافة إلى أن الثقب الاسود بطبيعته لديه حجم صغير جدا يبلغ قطره، على سبيل المثال، بضعة كيلومترات فقط، ومن ثمّ لم نتمكن من رؤية أي ثقب أسود مباشرة إلى يومنا هذا. لكن هناك ملاحظات أخرى غير مباشرة تضمن وجود الثقب الاسود، مثل المصدر القوي لأشعة إكس (بسبب قرب المادة التي "تُبتلع" من قبل الثقب الأسود، والتي ينبعث منها أشعة إكس عندما تقترب مما يسمى بـ"أفق الحدث" للثقب)، أو بسبب دوران نجم حول شيء غير مرئي ولكنه ضخم (الثقب الأسود المُفْترض). فتلك الملاحظات المباشرة - الحقائق مشروحة بشكل جيد بواسطة النظرية القائلة بوجود ثقب أسود في ذلك الموقع في الفضاء. ويجب أن نذكر هنا أيضا أن تلك الثقوب السوداء لم تُطرح هكذا اعتباطا من مخيلة العلماء، لكنها جاءت كحلول لمعادلات في نظرية النسبية العامة.

الجرافتون: الجرافتون هو حامل مُفْترض لقوة الجاذبية، فعندما يجذب جسمان ماديان كل منهما الآخر، فذلك يحدث بسبب ان كل جسم يتبادل مع الآخر الجرافتون الخاص به. والجرافتون أيضا جاء كحلول لمعادلات ميكانيكا (فيزياء) الكم، لكن وجود الجرافتون لم يتحقق بعد، وهذا غير مستغرب على الإطلاق، فكي يكون لدينا امل في مشاهدة أي جرافتون فلابد أن نشيّد جهازا كاشفا بحجم كوكب المشترى (أكبر كوكب في مجموعتنا الشمسية)، ثم نضع هذا الجهاز في أقرب مدار لنجم نيوتروني (نوع نادر نسبيا من النجوم لديه كثافة كبيرة للغاية)، وحتى ان استطعنا فعل ذلك فإن أقصى ما نتمناه بعد بناء هذا الجهاز الأسطوري هو الكشف عن جرافتون واحد فقط في فترة عشرة أعوام (المصدر)، ولأنه من المستحيل فنيا أن يحدث هذا الخيال العلمي، فإننا يجب ان نفترض وجود الجرافتون، فقط لأنه استطاع حل بعض المعادلات. ويجب ملاحظة أنه حتى في تلك الحالة فإننا لم نستطع الحصول على المعطيات غير المباشرة التي يمكن أن تُشرح بواسطة وجود الجرافتون (على الرغم من المحاولات التي تُبذل لأجل هذا الهدف)، ومن ثمّ فإن الجرافتون يُعد نظرية أكثر من كونه حقيقة.

الأمثلة السابقة تخبرنا أنه ليس هناك خط واضح يفصل بين "الحقيقة" وبين "النظرية"، فهناك "منطقة رمادية" من الممكن أن يتداخل فيها المفهومان ويحدث خلط بينهما، في الواقع يوجد "سلسلة متصلة"، ففي نهاية طرف ما ندعوه بالـ"حقائق" تبدأ ما يسمى بالـ"نظريات"، ويوجد لدينا درجة من اليقين لكل حلقة في تلك السلسلة، ودرجة اليقين تلك تتراوح ما بين "انه يُوجد" و"انه حقيقي"، فبالنسبة لـ"وجود البارثينون" نجد أن لدينا يقينا قويا جدا بوجوده، ومن ثمّ نحن لا نتردد في تصنيفه ضمن "الحقائق" في حين أن درجة اليقين تكون اقل تجاه بعض الحلقات الأخرى في تلك السلسلة لذلك نفضّل أن نطلق عليها "نظريات"، ولكن لا يوجد ما يستطيع أن يفرّق بصرامة ويميز بشدة الحقيقة عن النظرية.

لكن لنرى الآن الصفات التي يُشترط توافرها في تلك التي نطلق عليها "نظريات علمية".


النظريات

لو كان اهتمامنا منصبا فقط على الملاحظة وجمع المعلومات، دون وضع أي نظريات، لما توصلنا الى ما توصلنا اليه الآن، ولكان العلم الذي بين أيدينا الآن في حكم العدم. وكنا لنصبح في مرحلة ما قبل العلم البدائية. على سبيل المثال، الأرقام 7، 14، 21، 28، 35، 42 بمفردها عديمة الفائدة ولا تساعدنا في أي شيء. لكن ما يهمنا هو أن تلك الأرقام هي مضاعفات للرقم 7، بمعنى اننا نصبح قادرين على صياغة نظرية أو فرضية نستطيع من خلالها أن نتنبأ بالعدد القادم. فالتنبؤ بالمستقبل هو هدف من الأهداف الرئيسة للعلم، على سبيل المثال، عندما يتنبأ خبراء الأرصاد الجوية بحالة الطقس غدا، فإنهم لا يكتفون بمجرد أرقام لمعطيات أُرسِلتْ إليهم بالأقمار الصناعية، لكنهم يُدخلون تلك الأرقام إلى نماذج للأرصاد الجوية "النظرية" والتي عن طريقها تخرج تنبؤات تكون بمثابة نتائج.

لكن متى يمكننا القول ان لدينا نظرية علمية؟ فمن الممكن مثلا ان يزعم احد انه وفقا لملاحظاتنا عن كيفية النظام الذي يسير العالم الطبيعي وفقا له، فإنه لابد ان يكون هذا العالم مخلوقا من قبل قوة عليا. هل تلك النظرية مقبولة علميا؟


القابلية للتخطئة:

أهم شرط لا بد من توافره لكي تكون النظرية علمية هو قابليتها لأن تُخَطّأ.

مثال: الأرقام 7، 14، 21، 28، 35، 42، التي بواسطتها اصبح لدينا نظرية عن مضاعفات للرقم 7 وعرفنا ان العدد التالي هو 49، وهي نتيجة لديها قابلية لأن نتبين خطأها من عدمه، ومن ثم فهي نظرية علمية. فالقابلية للخطأ تعني "إمكانية القبول لأن تتعرض لاحتمالية عدم الصحة"، انطلاقا من المعطيات التي تمت ملاحظتها سابقا. فمثلا، إذا اتضح أن العدد التالي ليس 49، فحينئذ سيتبن لنا خطأ نظريتنا، ومن ثم فلابد أن نقوم بتغييرها لكي تشمل النظرية الجديدة كلا من الأعداد القديمة والحديثة التي لم تكن متوقعة من قِبَل النظرية القديمة، فلو حدث مثلا أن العدد التالي هو 50، فإنه يكون لدينا نظرية مطورة وهي أن أول ست أرقام هي مضاعفات الرقم 7 وبعدها يجب أن نقوم بإضافة 1 لكل مضاعف. (لاحظ أنه على الرغم من أن هذه النظرية تبدو معقدة إلا ان عالم رياضيات سيكون قادرا بسهولة على صياغتها بشكل جيد).

ماذا يحدث إذا لم نستطع الحصول على أرقام جديدة (معطيات جديدة)؟ سيكون لدينا إذا نظرية غير قابلة لأن تُخطّأ، لأنه على الرغم من كونها تستطيع أن تتنبأ لنا بنتائج (العدد التالي هو 49)، لكن وبما أنه لن يكون لدينا رقم جديد يمكننا التنبؤ به بعده، فلن يتمكن أحد من دحض هذه النظرية (يُخطّئها)، ومن ثم يقول هل هي صحيحة أم خطأ، فمن الممكن أن نكون حصلنا على الأرقام 7، 14، 21، 28، 35، 42، بطريقة معقدة أخرى غير نظرية مضاعفات الرقم 7، كأن تكون مثلا حقيقة لن نعرفها أبدا، بما أننا لن نستطيع الحصول على رقم جديد. ففي هذه الحالة التي لم نستطع فيها أن نفحص تفاصيل الطريقة التي أنتجت لنا الأرقام السابقة، فإنه لن يكون لدينا نظرية، بل سيكون لدينا معطى متمثل في تلك الارقام الستة ولا شيء آخر. ماذا لو استطعنا أن نفحص الطريقة (مثلا بواسطة برنامج كمبيوتر يستطيع أن يحسب وينتج هذه الأرقام واحدا تلو الآخر)؟ حتى في تلك الحالة، لن يكون لدينا نظرية ايضا، بل سيكون لدينا فهم واضح لآلية مسؤولة عن تلكم المعطيات.

لننتقل الآن إلى مثال أكثر واقعية. لنفترض أننا نقوم بملاحظة أنواع البجع الموجود في العالم، ونفترض أننا ما زلنا في العام 1600، حيث اكتُشِفت امريكا، لكن استراليا ماتزال مجهولة للجميع باستثناء سكانها الأصليين. إن كل البجع المُلاحظ في كل الأماكن المعروفة بما فيها الأمريكتان هو بجع أبيض اللون.

Cygnus buccinator Cygnus olor Cygnus melanocorypha Coscoroba coscoroba

أمثلة لنماذج من البجع الأبيض من أوروبا والأمريكتين وآسيا

إذا نحن الآن بصدد نظرية أن "البجع دائما أبيض"، وهي نظرية تتفق مع كل المعطيات المعروفة إلى الآن. نظريتنا لديها قابلية للخطأ، ففي حال ظهرت أي بجعة غير بيضاء فإن النظرية تكون خاطئة. في الواقع لاحظنا بعد اكتشاف استراليا وجود نوع من البجع الأسود Cygnus atratus، ومن ثم، فإن نظريتنا كان لها قابلية لأن تخطأ وهو ما حدث فعلا، وقد أصبحت نظرية خاطئة.

Cygnus atratus البجع الأسود في استراليا

من المهم أن نفرق بين مفهوم "القابلية للخطأ" وبين مفهوم "صحيح/خطأ". فالنظرية قد تكون صحيحة ومع ذلك تظل ذات قابلة لأن تُخَطّأ. (يجب أن تظل دائما لديها قابلية لأن تخطأ من اجل أن تبقى نظرية علمية)، فمثلا حتى لو ظهر ان البجع في استراليا ابيض، كانت النظرية ستحتفظ بصحتها، ومع ذلك ستظل هناك إمكانية لأن تُخطَّأ، لأنه من المحتمل أن نجد في بيئة ما في مكان ما على الأرض بجعا غير أبيض. لكن لو بحثنا في كل مكان على سطح الكرة الأرضية (وتيقنا تماما أننا لم نترك شبرا من الأرض إلا وبحثنا فيه) ولم نعثر على أي بجعة غير بيضاء اللون، فإن لن يكون لدينا نظرية، بل سيكون لدينا معطى وهو: (كل البجع أبيض).

وطالما تتواصل المعطيات التي تدعم النظرية، ولا تخطئها، فإن يقيننا بصحة النظرية في صعود، ومع ذلك فإن يقيننا لا يجب ان يصل أبدا لدرجة 100% إلا إذا عرفنا انه لن يكون هناك المزيد من المعطيات كما في مثال البجع الافتراضي.

لنوسع الفكرة السابقة كي نصل بها إلى خاتمة منطقية؛ نحن نعرف اننا عندما نترك جسما ما من مكان مرتفع فإنه يسقط إلى الأسفل إلى أن يصل إلى سطح الأرض؛ ونحن لدينا نظرية عن تلك الظاهرة، وهي نظرية الجاذبية التي كانت جزءا من الميكانيكا الكلاسيكية لنيوتن، وهي الآن جزء من نظرية النسبية لآينشتين. ليس مهما عدد المرات التي نترك فيها الأجسام، فهي دائما تسقط نحو الأرض في حركة متسارعة، ونلاحظ انه دائما ووفقا للنظرية فإن الأشياء تسقط للأسفل ولم يحدث ان شاهدناها تتحرك في اتجاه آخر. (بالطبع نحن نفكر في أجسام أثقل من الهواء، أجسام مثل بالونات الهواء الساخن أو البالون الممتلئ بغاز الهليوم. لكنها تتحرك أيضا وفقا لنظرية النسبية، فالهواء -الذي هو أثقل من الهيليوم- حول تلك الأجسام "يسقط" نحو الأرض).

ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن نظرية الجاذبية تم التحقق من صحتها تماما وأصبحت حقيقة؟ هل هي قابلة لأن تُخطّأ ام لا؟

لا، فالنظرية لم يتم التحقق منها بنسبة 100%، وبالطبع هي مازلت قابلة لأن تُخطّأ. النظرية تتنبأ أنه عندما نترك جسما أثقل من الهواء؛ فإن هذا الجسم سيتحرك مسرعا باتجاه الأسفل، ولكن إذا رأينا، ولو لمرة واحدة، أن هذا النوع من الحركة لا يحدث، وافترضنا اننا تأكدنا أنها لم تكن خدعة، فلم نكن ضحايا لحيلة قام بها ساحر، أو تعرضنا لتنويم مغناطيسي... إلخ، فإن نظرية الجاذبية ستكون خُطِّئَتْ بشكل يضطرنا أن نوسع مفهوم تلك النظرية لكي تشتمل النظرية الجديدة على الملاحظات الجديدة. المثال السابق يعد مثالا متطرفا، لأن الأشياء تسقط ملايين المرات على الأرض بشكل يومي، ولم يوجد أحد ابدا اشتكي من أن الأشياء تذهب الى الأعلى او ضاعت في الفضاء، ومن ثم فإن لدينا يقينا يقترب من الـ100%، ولكن يجب ألا يصل هذا اليقين الى 100% أبدا.

تدريب: من الممكن أن يتخيل القارئ قانونا جديدا للجاذبية بشرط ان يكون متوافقا مع كل الملاحظات، بمعنى أن القانون الجديد يجب أن يشرح لماذا كل الاجسام التي نلاحظها بشكل يومي تتحرك باتجاه مركز الأرض (أو مركز الكوكب بشكل عام)، لكن يجب أن يتنبأ القانون الجديد ببعض الملاحظات التي تخطِّئ النظرية الحالية للجاذبية. غني عن القول ان نذكر ان القانون الجديد يجب ان يكون متوافقا مع بقية قوانين الطبيعة، فلا نلجأ لقوى خارقة للطبيعة.

الإجابة: هناك حل مقترح في مقرر F1 (المبادئ الأساسية للفيزياء)، هنا.

لننتقل الآن إلى نظرية التطور. ربما يفكر أو يظن البعض أن نظرية التطور تتعلق بأحداث حدثت في الماضي، فالنظرية بكاملها تتحدث عن الماضي، ومن ثم لا يمكنها تقديم تنبؤات يمكن اختبارها، على الأقل خلال فترة زمنية معقولة وليس خلال ملايين السنين القادمة، إذن فهي ليست قابلة للتخطئة، ومن ثم فهي ليست نظرية علمية. هل هذه الفكرة صحيحة؟

لا، إنها خاطئة؛ فنظرية التطور تقدم تنبؤات قابلة للاختبار، ومنها على سبيل المثال، أننا نتنبأ بعدم إمكانية العثور على حفرية لإحدى الثدييات التي يرجع تاريخها لأكثر من 400 مليون سنة، (لأنه في تلك الفترة لم تكن الحيوانات تطورت إلى ثدييات). كذلك لن نجد أبدا حفرية لنوعنا (الإنسان العاقل) يرجع تاريخها لأكثر من مليون سنة، وهكذا. وفي اللحظة التي نجد فيها حفرية بعمر لا نستطيع أن نشرحه بواسطة نظرية التطور، (وبعد التأكد مرارا من عمر هذه الحفرية حتى نستبعد تماما عامل الخطأ)، فإننا وقتها سنكون قد خطّأْنَا نظرية التطور، والتي يجب أن تصحح في تلك الحالة لكي تستوعب المعطى الجديد. إن نظرية التطور البيولوجي تقدم لنا آلافا من التنبؤات القابلة للتخطئة، فهي نظرية علمية، لأنه ببساطة تلك التنبؤات ليس من المستحيل تخطئتها.

لكن ماذا بخصوص ما يُدعى بـ"نظرية التصميم الذكي"؟ فتلك النظرية تزعم انه على الرغم من ان الكائنات الحية تتغير بشكل محدود، فإن هناك مصمما ذكيا تدخل في مراحل حاسمة، مصمم خلق الأعضاء الأكثر تعقيدا (على سبيل المثال: العين)، وأننا لولا وجود هذا المصمم الذكي ما كنا موجودين الآن. هل هذه النظرية قابلة لأن تُخطّأ؟

إذا فكرنا برويّة فإننا لن نجدها كذلك، ومن لا يوافق على هذا الرأي فعليه أن يقترح تنبؤا واحدا للنظرية بحيث نكون قادرين على تخطئته بواسطة الملاحظة، حتى لو فشلنا في نهاية الأمر أن نخطّئ هذا التنبؤ، إلا أنه لابد ان تتاح لنا الفرصة للقيام بذلك. إن تنبؤات نظرية التصميم الذكي لا تتيح لنا فرصة لأن نقوم بتخطئتها، لأنها ببساطة لا تقدم تنبؤات. وبالإشارة الى عضو معقد آخر (مثال: الأذن)، نلاحظ أنه لا يؤسس لتنبؤ، وانما فقط اقتراح عن عضو، مع تجاهل الطريقة التي يمكن أن يكون تطور بواسطتها هذا العضو. إن الجهل الشخصي بالآلية التي تطور بها عضو من الأعضاء لا يعني حدوثه بشكل إعجازي، (بمعنى اختراق القوانين الطبيعية). فعندما يدعي شخص ما أن شيئا ما حدث بشكل إعجازي؛ فإن هذا الشخص يلغي قابلية هذا الشيء للتخطئة. لماذا؟ لأنه من الممكن أن يتخذ هذا الكائن الذي تسبب في حدوث المعجزة المُدعاة إجراءات احترازية كفيلة بإفشال أي محاولة للتخطئة. ومن ثم فإن أي نظرية تستلزم وجود كائن أعلى أو قوى ذكية خارقة للطبيعة لديها القوة والمقدرة التي تمكنها من أن تبطل أي محاولة للفحص العلمي، تكون بالضرورة غير علمية.

من المهم أيضا أن نفهم أن عبء كيفية وضع النظرية في إطار القابلية للتخطئة يقع على عاتق الشخص الذي اقترح تلك النظرية، فعلى سبيل المثال؛ إن الشخص (أيا كان هو) الذي قدم نظرية (التصميم الذكي) ليشرح لنا كيف ظهرت الكائنات الحية على الأرض، مُطالب أن يقترح بعض الوسائل التي تجعل هذه النظرية قابلة للتخطئة، ما دام يزعم أن تلك النظرية علمية، واذا لم يكن لدينا ما يمكّنا من ذلك، فليس لدينا نظرية علمية، بل مجرد رأي. (لتنوير القارئ: لم تُقترح ابدا وسيلة نتمكن من خلالها جعل "التصميم الذكي" قابل للتخطئة).

الاتجاه الخاطئ للدعم .. بدلا من التخطئة

من المعروف في علم النفس أن الناس لديهم ميل للحصول على تأكيدات على وجهات نظرهم (أو نظرياتهم العلمية) بدلا من تخطئتها، هذا الاتجاه والممارسة خطأ تماما، فلا يهم عدد التأكيدات التي نمتلكها، فمن الممكن أن نحصل على درجة تقريبية من اليقين لحقيقة رأي ما، في حين أنه بالمقابل نجد أن تخطئة واحدة فقط كافية كي تأكد لنا فورا وجود خطأ، ومن ثم فإن العلماء الذين يريدون أن يكونوا صادقين (وأيضا غير العلماء الذين يريدون ان يكون لديهم رأي صادق تجاه شيء ما) يجب أن يسعوا بشكل دائم نحو التخطئة.

من المثير للاهتمام ان الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) كتب عن هذا الموضوع في القرن الـ17 (الجملة الأخيرة أُكدت من قبل المؤلف):

"بمجرد أن يتبنى العقل البشري رأيا (سواء كان هذا الرأي مجمع عليه، أو لأنه يبدو أنيقا) فإنه يقول بتعديل كل شيء كي يدعمه ويؤكده، ولا يهم كم يبلغ عدد الأدلة التي تناقض هذا الرأي، لأن هذه الأدلة إما انها ستُهْمل أو تُطرح جانبا وتواجه ببعض الردود التي يُتخيل أنه مميزة، وهكذا، وبسبب الرأي الخاطئ المُقرر سابقا؛ فإن حقيقة الرأي الأصلي ستبقى سليمة. [...]".

"كل الأعمال الخرافية تكون بهذا الشكل، سواء كانت تتعلق بالتنجيم او الأحلام أو التنبؤ او العقوبات الإلهية أو أي شيء آخر مشابه، فالناس الذي يستمتعون ويسعدون بتلك الأمور التافهة، يهتمون بالحقائق فقط عندما تعزز تنبؤاتهم، وفي حين لا يحدث هذا التعزيز "وهو ما يحدث غالبا" فإنهم يتجاهلون تلك الحقائق. إن هذا الاتجاه الخاطئ يظهر بشكل متملق في الفلسفة والعلم، عندما تتغير الآراء الأولية كي تقهر الآراء التي تأتي لاحقا، رغم أن الآراء الجديدة قد تكون أكثر صحة من سابقتها، وبصرف النظر عن هذه السعادة والزهو الذي وصفته سابقا، فإن هذا النوع من الخطأ هو ميزة مصاحبة للعقل البشري تدفعه لأن يحفل بالتأكيد أكثر من اهتمامه بالنفي، في حين ان كلاهما يجب أن يعاملا بمسطرة واحدة. في الواقع، انه عند طرح فرضية حقيقية، فإن النموذج المضاد لتلك الفرضية له قيمة أعلى من النموذج الموافق لها".

فرانسيس بيكون 1620. Novum Organum, Book 1, XLVI.

سلطة العلماء

في العادة لا تقوم سلطة العلماء بأي دور مطلقا في أن تكون النظرية مقبولة من عدمه، بمعنى آخر أنه ليس مهما الشخص، لكن المهم هو ما يدعيه، هذا مهم كقاعدة، لأنها ترفض السلطة كمصدر للحقيقة أو المعلومات، ويجب أن نذكر هنا أن الأديان تعتمد بشكل رئيسي على السلطة لقبول شيء ما على أنه حقيقة، بخلاف العلم. (على سبيل المثال، "بما أن النبيّ (س) قال ذلك؛ إذن فهو حقيقة"). في العلم ليس الشخص هو الذي يمنح زعما ما أهميته؛ لكنها المعطيات، فالسؤال يكون: هل المعطيات تساند هذا الادعاء؟ فالمعطيات لها الأولوية، والآراء تتبعها.

عمليا، آراء العلماء ذوي المكانة المرموقة تحظى بقدر من الاهتمام عن غيرهم من العلماء غير المعروفين. والحقيقة لا تُقرر بناء على سلطة أو مكانة أحد، لكن ما يحدث هو أن بعض الأفكار تحظى بمزيد من الاهتمام عندما تُعلن بواسطة علماء معروفين، لأنه معروف ضمنيا أن هؤلاء العلماء ذوي المكانة المرموقة لم يكتسبوها اعتباطا أو بدون سبب مُسْتحق، ولكنهم استحقوها نظرا لقدراتهم العلمية، فكون العلماء مرموقين يعني أن وجهات نظرهم اصبحت صالحة علميا، ومن ثم هناك احتمالية متزايدة أن يُثبت أن أفكارهم صحيحة. فالعلماء المدربون جيدا يعرفون كيف يتوصلون إلى استنتاجات صحيحة، والاحتمالية المتزايدة لأن تكون تلك الافكار صحيحة مسلم بها ضمنيا من قبل بقية المجتمع العلمي، ومع ذلك، فهذا كله ليس إلا مجرد احتمالات أن تكون بعض الآراء صحيحة، فليست المسألة قبولا لآراء من دون تمحيص بناء على سلطة العالم.


الهجوم الشخصي

الهجوم الشخصي هو موضوع مرتبط بسلطة العلماء، وأصله هوthe ad hominem attacks إن ad hominem كلمة لاتينية الأصل تعني "ضد الشخص"، ويستخدم هذا المصطلح عندما يقوم أحد بنقد لشخصية صاحب النظرية او الرأي، بدلا من نقد أفكاره بالمعطيات والمنطق. مثال نموذجي لذلك، هو ما حدث مع تشارلز دارون ومحاولة تشويه سمعته من أجل تقْويض نظريته. ولذلك يُقال أحيانا ان دارون نفسه تبرأ من نظريته تلك قُبيل وفاته، مع العلم أن شيئا كهذا لم يحدث، وحتى لو حدث لأصبح امرا لا علاقة له بصحة أو خطأ نظرية التطور. فمثل هذا الهجوم يقوم به عادة أناس يعوزهم تعليم على اساس علمي بشكل تام، فهم لا يدركون أنه لا علاقة بين الرأي الشخصي في العالم س وبين نظريته التي اقترحها. لكن بسبب أن فكرة "سلطة العلماء" استخدمت في مجالات غير علمية، ظن هؤلاء الناس أن نفس الفكرة تطبّق في العلم، لكن في حقيقة الأمر، فإنه في اللحظة التي يُطلق فيها رأي أو فكرة أو نظرية ما على الملأ، فإنها لم تعد تنتمي لهذا الشخص الذي أطلقها، ولكنها تصبح مملوكة للبشرية جمعاء، فالآخرون يصبح بإمكانهم أن يختبروها ليتبينوا صحة تلك النظرية أو هذا الرأي من عدمه، بغض النظر عن ما يؤمن به أو يعتقده الشخص المدافع عن تلك النظرية.


التأكد من الادعاءات بواسطة المراجع

يجب على العالِم الذي ينوي نشر ورقة او بحث علمي ان يُدّعم ذلك بالمراجع (سواء كانت تلك المراجع تعود اليه او الى مؤلفين آخرين)؛ حتى لو كان العالِم متأكدا مما يقوله، الا انه يظل ملتزما بأن يشير في ورقته الى المراجع، وذلك لسببين:

       من الممكن، ان تكون تلك الادعاءات خاطئة، على الرغم من تأكد المؤلف من صحتها.

       قد يكون القارئ غير متأكد من صحة تلك الادعاءات.

النقطة الأخيرة مهمة، فلا يمكن أبدا الإحاطة بكل ما يعرفه القرّاء؛ ومن ثم يجب ان يُعطوا الفرصة ليمحصوا مصادر ادعاءات المؤلف، ولكي يُزال كل شك، الى جانب ان الاحالة الى مراجع تنفي مسؤولية المؤلف عنها، وتصبح الاطراف الاخرى -أصحاب هذه المراجع ومن قام بنشرها- مسؤولة عن صحة محتوى هذه المراجع. وبالطبع اذا كان المرجع مخطئا، فإن كل ما يترتب عليه مخطئ ايضا، ومن ثم يجب على العلماء الا يشيروا في مقالاتهم او اوراقهم العلمية الى مراجع من هذا النوع. ومع ان العلماء يجب الا يكونوا متحيزين اثناء انتقاء مراجعهم، الا انه يجب عليهم ان يختاروا المراجع التي تؤيد ادعاءاتهم بحرص وعناية.


لماذا يكون العالم متشككا؟

لنفترض اننا في اجتماع بمنزل مع أناس يدعي احدهم انه يمتلك "قوى روحانية" يستطيع ان يعرضها امامنا (من دون أن يدعي انه ليس الا مجرد ساحر)، سواء عن طريق ثني الملاعق "بواسطة قوى روحانية" او برفع الاشياء من على الارض، وجعلها معلقة في الهواء بواسطة نفس هذه القوى.

لماذا ينظر العلماء الى تلك الادعاءات بعين الشك؟

لأن العلماء، ولاسيما الفيزيائيون، يعرفون ماهية القوى الموجودة في الطبيعة؛ إنها أربع قوى: القوة الكهرومغناطيسية، القوة النووية الشديدة، القوة النووية الضعيفة، قوة الجاذبية. تلك فقط هي القوى الطبيعية المعروفة الى الان، وبالطبع ليس من بينهم "قوى روحانية".

نحن نتحدث عن القوى المعروفة حتى الان، ولكن ماذا لو ان هناك فعلا "قوى روحانية" غير معروفة؟

وقتها يكون المنطق او التفكير العلمي (والذي يؤدي بدوره الى الشك) كالتالي: "هل من الممكن ان يكون ملايين العلماء في العالم، ومن بينهم الفائزون بجوائز نوبل في الفيزياء، وغيرهم من العلماء الذين يُعدون أذكى من مشى على الارض، ومنهم اشخاص لامعون مثل اينشتاين وبوهر وهايزنبيرج وفاينمان وهوكينج وآخرين، هل من الممكن ان يكونوا كلهم على خطأ بشأن القوى المعروفة للطبيعة، في حين يكون الشخص س الذي يدعي انه يمتلك "قوى روحانية" على حق؟ بالقطع، "القوى الروحانية"، لو كانت موجودة، ستندرج ايضا تحت قائمة قوى الطبيعة، بما ان لها قدرة على تحريك اجسام فيزيائية، ومن ثم فإننا يمكن ان نفحصها في مختبر فيزيائي، ومع ذلك لم يلاحظ أي فيزيائي مثل هذا النوع من القوى، وبناء عليه، فإن التفكير العلمي المنطقي سيصل بنا الى انه من غير المحتمل ان يكون كل هؤلاء الفيزيائيين والعلماء الذين يعدون من اذكي الناس على خطأ في حين ان الشخص س على صواب في امتلاكه "قوى روحانية" غير معروفة. على كل حال لو ان س يمتلك هذا النوع من القوة؛ فإنه سيصبح قادرا على ان يؤسس لمجال فيزيائي غير مكتشف من قبل، وسيصبح ذائع الصيت، ويحصل على جائزة نوبل، ويصبح ثريا، وبما ان هذا غير متحقق، فإن مثل هذه الادعاءات تبدو زائفة في عقول العلماء.

مثال لشخص ادعى امتلاكه لقوى خارقة للطبيعة، هو صاحب القدرات النفسية والعقلية يوري جيللر؛ ففي مقطع الفيديو التالي الذي يعلق عليه جيمس راندي وهو كندي-امريكي وساحر مسرحي ومتشكك ومحقق في مزاعم الخوارق للطبيعة. نشاهد جيللر يحل ضيفا على برنامج جوني كارسون "عرض الليلة". جوني كارسون (1925-2005) نفسه ممثل كوميدي، كان يدعي سابقا انه ساحر، وهو يعتقد ان جيللر مجرد محتال، ولذلك كارسون استدعى راندي قبل تسجيل العرض في الاستوديو، وطلب منه النصح، وبناء على نصائحه أعد كارسون وطاقمه مجموعة من الزجاجات الصغيرة المحكمة الغلق والتي سنراها على الطاولة أمام جيللر، إحدى تلك الزجاجات كان بها ماء في حين ان الزجاجات الاخرى خالية. جيللر كان عليه ان يخمن ببساطة ايا من تلك الزجاجات بها ماء، وهو ما استطاع ان يقوم به عدة مرات من قبل (ولكنه دائما يستخدم زجاجاته الخاصة، وبالطبع وفقا لشروطه الخاصة ليؤدي العرض). لنرَ هذا الحدث مع كارسون مستضيفا جيللر.

ملحوظة: لمشاهدة الترجمة العربية للفيديو اضغط على الزر cc بعد التشغيل مباشرة

المثال السابق المتعلق بـ"القوى النفسية" من الممكن ان يُعمم على أي ادعاء مُشابه. أي ادعاء يعارض قوانين الطبيعة فهو في حقيقة الامر يعارض بناء شاهقا. إن غير العالِم يمر بأوقات صعبة في تقدير مدى ضخامة هذا البناء ومن ثم مدى صعوبة هدمه، وذلك لأنه من السهل جدا ان يتقبل غير المختصين بعض الاشياء على انها ظواهر غير طبيعية، وعلى النقيض من ذلك، فإن المختصين في مجال العلم يدركون تماما ان الشخص الذي يدعي انه قادر على اختراق قوانين الطبيعة، يشبه تماما شخصا يدعي ان لديه القدرة على هدم مبنى امامه بركلة واحدة، من دون ان يدرك هذا الشخص ان المبنى المُفترض انه هُدم هو في حجم ناطحة سحاب، وانه يستحيل هدم مبانٍ بهذا الحجم عن طريق قوى عضلية لكائن بشري.


الافتراض الأساسي المتعلق بمجال العلم

إن المناقشة السابقة عن وجود "قوى نفسية" قادرة على تحريك أجسام تقودنا الى فكرة مهمة اضافية، وهي:

أي شيء يتأثر بالوجود الفيزيائي

 يمكن اخضاعه للفحص العلمي

وهذا يعني ان اي احد يدّعي انه قادر على ثني الملاعق بواسطة "قوة روحانية"، وقادر على تكرار ذلك (ما يجعله ادعاء قابلا لأن يُتحقق منه)، فإنه وقتها لديه مطلق الحرية في الذهاب الى مختبر فيزيائي للقيام بفحص تلك الظاهرة.

عمليا؛ لا يوجد أحد من هؤلاء الذين يدعون قدرتهم على انتهاك القوانين الطبيعية -او حتى عدم معرفة هذه تلك القوانين- يذهب الى مختبر علمي، او يسمح للمختبر ان يقترب منه، لأن لديهم الكثير الذي سيخسرونه في حال افتضاح امر حيلهم وخداعهم، على النقيض تماما، انهم يربحون كثيرا طالما ان "قواهم" تبقى غير مفهومة ومغلفة بـ"الغموض". 

إن الجملة التي وضعت في اطار بالأعلى، لا تتعلق فقط بـ"القوى النفسية" المفترضة، لكنها تشمل اي شيء يُفترض ان يكون "قوى خارقة للطبيعة"، فبما ان تلك القوى الخارقة لها تأثير على العالم الطبيعي، فإنه يلزم من ذلك ان هذه القوى الخارقة للطبيعة مرشحة لأن تُفحص علميا، على سبيل المثال، الناس الذين يزعمون انهم يسمعون اصواتا أو يشاهدون رؤىً، أو لديهم اتصال مع الاموات، او مع الرب، إلخ. فإن ادعاءاتهم لا تكون "وراء حدود العلم". ففي نهاية الامر، نجد ان عقولهم، التي بواسطتها، يستقبلون تلك النوعية من الرسائل، عبارة عن أجسام مادية، ومن ثمّ فإن العلماء يجب ان يُمنحوا الفرصة لفحص عقول هؤلاء الناس الذين مروا بهذه التجارب، لمحاولة شرح ما حدث. في واقع الامر ان فحوصات كهذه حدثت ولا تزال تحدث، والنتائج حتى الان مثيرة للانتباه وشيقة جدا، (الجزء الشيق فيها هو في كيفية تمكن الدماغ من ان ينشئ اوهاما يخدع بها نفسه – هذا الموضوع مُتناول بالشرح في مقرر N4). لذلك ليس حقيقيا ان هناك "حدودا" مُفترضة لأشياء لا يستطيع العلم ان يتناولها. (وهنا نتساءل: لماذا لا يستطيع العلم فعل ذلك؟) إن هذه الحدود تبدو مفيدة فقط لهؤلاء الذين يخشون من فضح معتقداتهم.


"فلسفة العالِم" و"المعتقدات" العلمية:

لدى العلماء منظومة من "المعتقدات"؛ فنجدهم على سبيل المثال يعتمدون على قاعدة قوية من المبادئ لم يتم تلقينهم إياها بشكل مباشر، لكنهم يتعلمونها بشكل غير مباشر ويقومون بتطوير تلك "المعتقدات" خلال مراحلهم العلمية المختلفة.

ولكن يجدر بنا هنا ان نفتح قوسين لنوضح انه عند الحديث عن "الإيمان" (الذي يقع ضمن اطار القوسين)، فإننا لا نعني أي شيء مقارب للإيمان الديني الشخصي، حيث لا يشك المؤمن ابدا في صحة ما يؤمن به، بل ان ما نقصده بـ"الإيمان" هنا هو "فرضية يُعتقد انها صحيحة بشكل كبير جدا، ومع ذلك لا يجب ان تكون الثقة بصحتها مطلقة".

الـ"الإيمان" بموضوعية الطبيعة:

إن فكرة أن العالم الطبيعي موجود "هناك" متجذرة بعمق في لاوعي العالم، وبشكل مستقل عن الملاحظ بمعنى انه يمكن ملاحظته بموضوعية، فإذا افترضنا وجود اثنين من العلماء يقومان بملاحظة العالَم؛ فإنهما يجب ان يتفقا على المؤشرات الناتجة عن أدواتهما العلمية، فعلى سبيل المثال؛  إن الإجابة على سؤال عما اذا كان حجرٌ ما اكثر سخونة من حجر آخر، لا تتحدد وفقا للعالم س او ص ولكن وفقا لميزان حرارة، فنحن نعتمد على ميزان الحرارة في تلك المسألة، أكثر من اعتمادنا على رأي أي أحد من الناس، ولا يهم كم هو ذكي ذلك الشخص، وهذا هو ما تعنيه "الموضوعية".

بشكل عام، وفقا للإيمان بموضوعية الطبيعة؛ فإن العالم يثق بشكل اكبر في دلالات او مؤشرات او نتائج الأدوات اكثر من ثقته في أي شيء مُدون آخر؛ أيا ما يكون من قام بتدوينه، سواء كانوا علماء ام فلاسفة ام رجال دين ام مفكرين. ففي المجال العلمي نقول: "المعطيات لها الأولوية والنظريات تتبعها".

ولكن لنُشرْ هنا الى انه في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهر العديد من الآراء المتباينة ولاسيما بين الفلاسفة وبين علماء فيزياء الكم ايضا، حيث سادت وجهة نظر خاطئة عن ما الذي سيؤثر على رأي الملاحظ في مخرجات التجربة والتي على اثرها قد "يخلق" العقل البشري ما يتصوره على انه "الواقع" . اليوم اصبح مفهوما ان الملاحظ ليس بالضروة عقلا، وتحديدا، ليس عقلا مدركا، فالملاحظ قد يكون أداة مادية، والتي بدورها قد "تخلق واقعا" أيضا. إن رؤية فيزيائي الكم في القرن العشرين كانت قائمة على فكرة ساذجة وغير صحيحة لماهية "الوعي"؛ فكرة لم يتم تحديدها بدقة من قِبل الفيزيائيين، بالطبع لأنها تتخطى حدود اهتمامات الفيزياء، ولذلك يوجد خطأ سببه انه بالأساس لا توجد وسيلة علمية تمكنّا من التفرقة بين الملاحظ الذي لديه وعي والملاحظ الذي يفتقده، (ومن ثم أي منهما هو الذي ينشئ –او لا ينشئ- الواقع). والخطأ الثاني كان، كما ذُكر آنفا، ان القدرة على الملاحظة هي شيء ينتمي الى الجزء المادي للملاحظ بشكل عام وليس الى جزء الوعي فقط. ولذلك لا يوجد موضوع للمراقبة الواعية ومن ثم خلق ذاتي مُفترض للواقع. هذا الموضوع مشروح بشكل واف في مقرر F3 (مقدمة لفيزياء الكم).


الـ"إيمان" بفهم الطبيعة:

للعلماء "معتقد" اخر وهو ان العالَم انما هو شيء مفهوم في نهاية الامر، وهذا يعني ان كل سؤال يتعلق بهذا العالَم له إجابة علمية؛ ربما لم نستطع التوصل الى الإجابة حتى الان؛ لكن بالمحاولة والبحث سنكتشفها، على سبيل المثال؛ قد لا نعرف اليوم كيف يؤلف موسيقار مقطوعة موسيقية او كيف يكون رسام في حالة إلهام فيرسم لوحة ما، ولذلك نقول ان هذا العمل الفني، في الوقت الحاضر، وراء حدود العلم، ومع ذلك، فإن العلماء مجمعون على انه في المستقبل، (ربما بعد عدة عقود)، سوف نجد الإجابات التي تتعلق بالعالم الطبيعي.

ولكن لنقرر هنا ان الـ"إيمان" بفهم الطبيعة قد يكون خطأً، فربما يكون لدى العقل البشري قيود متأصلة به ولا يستطيع بطبيعته ان يقهرها وتظل تحول دون فهمه للطبيعة. ومن الممكن ان يأتي في المستقبل وقت تتضح فيه لنا تلك القيود، ولكن في الوقت الحالي يتبنى معظم العلماء الرأي القائل بأن العالم يمكن فهمه.


الـ"إيمان" بالنظام الاقتصادي للطبيعة:

يوجد "معتقد" آخر مشابه للمقترح أعلاه، وهو أن العالم يؤمن أن الطبيعة في اعماقها بسيطة، وأنه عندما يبدو لنا شيء ما معقدا، فذلك لأن عقولنا "تربكنا" بشكل مؤقت، فهي لا تستطيع ان ترى الأمور من منظور مختلف اكثر بساطة.

مثال لذلك، هو الإحلال الذي حدث لنموذج مركزية الأرض (حيث كانت الأرض هي مركز العالم) بنموذج مركزية الشمس، حيث تدور الأرض حول الشمس. لقد كان نموذج مركزية الأرض يستلزم ان تكون مدارات كواكب عطارد والزهرة والمريخ... إلخ، معقدة بشكل كبير جدا. إن الكواكب، عند النظر اليها من الأرض (إذا اعتبرنا ان الأرض ثابتة) تبدو وكأنها تتحرك في اتجاه واحد، ولكن في أوقات معينة تبدو وكأنها "ضغطتْ على الفرامل"، فتصبح في حالة سكون تام، ثم تغير اتجاهها وتتحرك في الاتجاه المعاكس، ثم تتباطأ سرعتها مرة ثانية الى ان تتوقف، ثم تغير اتجاهها مرة أخرى الى الاتجاه الاصلي الأول، وهكذا. في الواقع ان تلك الرؤية ما هي الا خداع بصري يحدث بسبب ان الكواكب "الداخلية" (عطارد والزهرة؛ الأقرب الى الشمس من الأرض) يتحركان اسرع من الأرض، فيصلان اليها ويتجاوزانها، وبمجرد الوصول الى ابعد نقطة عن الشمس (من افضل مكان رؤية لنا)، فإنهما يبدوان وكأنهما يغيران اتجاههما ويتحركان في الاتجاه المعاكس في القبة السماوية المُتخيّلة. وبالمثل فإن الأرض تتحرك اسرع من الكواكب"الخارجية" (المريخ والمشترى وزحل – الباقي لم يكن معروفا في العصور القديمة) حتى تتجاوزهم، ولذلك تحدث الظاهرة العكسية. لقد خلُص الإغريق (مثل ارسطو ثم بطليموس في مصر) بسبب اعتقادهم في نموذج مركزية الأرض الى ان الكواكب تتحرك خلال انحناءات معقدة تُسمى في الرياضيات "المسارات الدويرية"، وتلك الانحناءات تتبع نقاط الدائرة التي تلتف على السطح الخارجي لدائرة أخرى. (انظر الشكل بالأسفل).

نموذج لانحناء دويري

ولكن مع استخدام نموذج مركزية الشمس الأكثر صحة، أصبحت مدارات تلك الكواكب اكثر بساطة وتحولت الى دوائر بسيطة، كما افترض المفكرون أمثال أرسطرخس الساموسي (ومن بعده بكثير كوبرنيكوس)، او قريبة من الدوائر، او إهليجية، كما توصل الى ذلك كيبلر لاحقا بعد ان فحص المعطيات الفلكية بحرص.

نموذج للإهليج (القطع الناقص)

هذا النوع من التبسيط لنظرية فيزيائية حدث مرة أخرى منذ قرن مضى فقط، عندما اقترح اينشتاين نظرية النسبية العامة. فوفقا لتك النظرية نجد ان مدارات الكواكب رغم انها تبدو لنا وكأنها تدور بشكل إهليجي متباطئ (انظر الشكل بالأسفل) الا انها في الواقع ليست سوى خطوط مستقيمة، انها مستقيمة في فضاء رباعي الأبعاد: الزمكان. بمعنى اخر نجد ان نظرية النسبية بسَّطت الأمور مرة أخرى، ولكن لكي نفهم هذا التبسيط فلابد ان نتخلى عن الطريقة التي ينظر بها عقلنا الى الأشياء في حياتنا اليومية ونتحرك الى فضاء رياضي لا نملك فيه فهما بديهيا للهندسة. 

مدارات إهليجية لكوكب تم تبسيطها الى "خطوط مستقيمة" بواسطة نظرية النسبية

كما ظهرت تبسيطات مشابهة في الفيزياء عندما اصبح مفهوماً ان الكهرباء والمغناطيسية هما وجهان لعملة واحدة، فهما نتيجة للقوة الكهرومغناطيسية. وحدث في القرن الماضي ايضا توحيد آخر (اقرأ التبسيط)، وذلك عندما توحدت القوة النووية الضعيفة والقوة النووية الشديدة مع القوة الكهرومغناطيسية؛ ومن ثم اصبح لدينا الان نظرية واحدة تشرح ثلاثا من قوى الطبيعة الاربع، ولم يتبق الا القوة الرابعة وهي قوة الجاذبية، وفي عصرنا الحالي يحاول العلماء، وفقا لـ"إيمانهم" ببساطة الطبيعة، ان يوحدوا قوة الجاذبية الرابعة داخل نفس النموذج ليحصلوا على نظرية واحدة تشرح القوى الأربع؛ (وهو ما يُطلق عليه "نظرية كل شيء"). إن تمكنهم من ذلك او عدمه هو امر محل جدال، ولكن ما يمكن قوله هنا هو ان ايمانهم ببساطة الطبيعة يرشدهم لمحاولة اكتشاف أبسط نظرية ممكنة، والنتيجة العملية لهذا الايمان تتمثل في كمية الاموال الطائلة التي تُنفق على الأبحاث في الفيزياء نتيجة لهذا الايمان الذي يقود العلماء الى البحث في اتجاهات محددة وتجنب الاخرى.

لقد عبّر الفيلسوف الانجليزي وليام الأوكامي عن الايمان بالطبيعة في القرن الرابع عشر؛ حيث قال ما اصبح لاحقا معروفا بـ"شفرة أوكام":

شفرة أوكام
لا ينبغي لكيانات أن تُقدم بدون داعٍ
عندما تكون تلك الموجودة كافية لشرح ظاهرة ما.

أمثلة تتعلق بآراء دينية:

·       كان اللاهوتيون المسيحيون في العصور الوسطى يؤمنون ان الكواكب تبحر على امتداد مداراتها، لأن الملائكة خلف تلك الكواكب يقومون بدفعها، ولكن عندما اصبحت نظرية حركة الكواكب معروفة (بواسطة قوانين كبلر ونظرية الجاذبية لنيوتن ثم بواسطة أينشتاين أخيرا)، أدرك الناس انه لا حاجة للملائكة، فبدونهم ستستمر الكواكب ايضا في التحرك بنفس الطريقة التي اعتادت عليها، ولذلك "أُزيلت" الملائكة من النظرية بواسطة شفرة أوكام.

·       وحتى هذا اليوم، يعتقد الشخص العادي ان الله خلق النجوم (او مازال يخلقهم؛ عندما علم الناس الان ان النجوم لاتزال تُخلق طوال الوقت في مجرتنا). ولكن عندما اصبح مفهوما كيف ينهار الغبار بين النجوم بسبب وزنه ويتراكم في بعض النقاط التي تُخلق فيها النجوم (في ملايين السنين)، فإن تدخل الله أصبح زائدا، لأن النجوم ستظل تُخلق حتى لو لم يفعل الله شيئا، تماما كما تُخلق قطرات المطر في سحابة سميكة وتمطر باتجاه الارض بدون احتياج للإله ان يفعل اي شيء حيال هذا الامر، ومن ثم فإننا نجد ان شفرة أوكام "تزيل" الله أيضا من عملية خلق النجوم. (بالطبع نحن نقصد على وجه التحديد، ازالة دور الله من علمية خلق النجوم. القارئ لا يجب ان يفسر هذا بأن شفرة أوكام تقصي الله بشكل عام).   

لنرَ الآن مثالا نظريا اخر؛ رأينا في قسم سابق انه عند وضع نقاط مكان الأعداد 2،9 ،14 ،17، 18 ،17 ،14 ،9 و2 وتوصيلها وفقا لارتفاعها، فإننا سنخلُص الى هذا المنحنى:

 هذا المنحنى، الذي هو نظرية تصف و"تلخص" الأعداد، يبدو بسيطا بما فيه الكفاية، ولكن ربما يقول احد انه بدلا من المنحنى بالأعلى فإنه يمكننا ان نلخص المعطيات خلال الشكل التالي:

إن هذا المنحنى ايضا يمر بجميع المعطيات، ومن ثم فهو يصفها بشكل صحيح، انه يبدو فقط "مجنونا" قليلا بخصوص النقاط الاخرى؛ ولكنه دقيق في وصف نقاط المعطيات. لكن لماذا لا يجب ان يكون المنحنى بالأعلى هو النظرية الصحيحة التي تصف المعطيات؟

إذا كان لدينا فرصة في جمع معطيات اضافية فسنكتشف اي النظريتين (البسيطة والمعقدة) تلائم اكثر جميع المعطيات (القديمة زائد الجديدة المُضافة اليها)، ولكن اذا لم يكن لدينا فرصة، او عرفنا انه لكي نحصل على معطيات اضافية فإنه يجب ان ننتظر تكنولوجيا متقدمة في المستقبل، فحينئذٍ لا احد يستطيع ان يستبعد ان المنحنى المعقد يمثل نظرية صحيحة، ومع ذلك فنحن نستطيع ان نضع جانبا تلك النظرية المعقدة –مؤقتا- ونفضل عليها النظرية البسيطة، والفضل في ذلك يرجع الى بساطة الطبيعة، باستخدام شفرة أوكام. إن ما نناقشه هنا ليس مجرد منحنى بسيط او معقد (فعلى اية حال، كيف نحدد بدقة ما هو البسيط او المعقد؟)، ربما يتذكر القارئ ان المنحنى الاول او (البسيط) قد وصف بواسطة الدالة الرياضية:

y = 18 – (x – 5)2

المنحنى الثاني (المعقد) موصوف ايضا بدالة رياضية، لكن لو اردنا كتابة تلك الدالة فسنجدها تتجاوز سطرا كاملا من اسطر هذه الصحفة (لهؤلاء الذين لديهم معرفة بالرياضيات، سيجدون تلك الدالة كثيرة الحدود لأكثر من 16 درجة)، ومن ثم فإن الامر لا ينحصر في ان المنحنى الثاني يظهرا معقدا بالنسبة للعين فحسب، بل ان كل محاولة تُجرى لوصفه ستكون معقدة أيضا، وهذا يعني ان المعادلة الثانية بطبيعتها اكثر تعقيدا من الأولى، والسبب لرفضها هو: بما ان شفرة أوكام عملت بشكل رائع سابقا، فمن الطبيعي ان نتوقع انها ستعمل بشكل صحيح مرة اخرى في المستقبل؛ ومع ذلك يجب الا يصل تأكدنا الى درجة اليقين المطلق.

الاعتقاد ببساطة الطبيعة له جذوره في التاريخ، فقد عبّر الفكر الإغريقي عن ذلك بشكل واضح، والمفكرون الإغريق حاولوا ان يشرحوا التعقيد الذي نراه في الطبيعة عبر تقليصه الى بعض المواد الأساسية والبسيطة: طاليس اعتقد ان الماء هو أساس كل شيء؛ هرقليطس اعتقد انها النار؛ فيثاغورث اعتقد ان الأرقام أساس كل شيء؛ إيمبيدوكليس ثم لاحقا ارسطو اعتقدا ان العناصر الأساسية اربعة هي النار والهواء والأرض والماء؛ ديموقريطوس اعتقد ان كل شيء مصنوع من الذرات، وهكذا. هذا الايمان العميق لدى الاغريق ببساطة الطبيعة استمر لاحقا في الفكر الغربي لكن مع اكتسابه مبررات علمية، فاكتشفوا ان أساس كل شيء (كيميائي) مكون من 92 عنصرا طبيعيا (الذرات)، وان القوى الأساسية للطبيعة اربع فقط؛ وهناك محاولة تُجرى لتوحيدها جميعا، (انظر الفقرة السابقة)، كما اكتشفوا ان الجسيمات دون الذرية التي تشكل الذرات هي ايضا قليلة، الخ. هذا الموضوع مشروح بالتفصيل في مقرر E2.


الرجوع إلى الصفحة الرئيسية لـI.C.S.